الجزء الثاني
وقال أيضا ابن القيم رحمه الله :
وخاصية التعبد الحب مع الخضوع والذل للمحبوب فمن أحب شيئا وخضعله فقد تعبد
قلبه له بل التعبد آخر مراتب الحب ويقال له التتيم أيضا فانأول مراتبه العلاقة وسميت علاقة لتعلق الحب بالمحبوب
قال الشاعر:
وعلقت ليلى وهي ذات تمائم * ولم يبد للاتراب من ثديها ضخم
وقال الآخر :
أعلاقة أم الوليد بعد ما أفنان رأسك كالبغام الابيض *
ثم بعدهاالصبابة وسميت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب
قال الشاعر :
يشكىالمحبون الصبابة ليتني * تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحبكلها * فلم يلقها قبلى محب ولا بعدي
ثم الغراموهو لزوم الحب للقلب لزومالا ينفك عنه ومنه سمى الغريم غر بما لملازمته
صاحبه ومنه قوله تعالى إنعذابها كان غراما وقد أولع المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحب وقل أن تجده فيأشعار العرب ثم العشق وهو سفر إفراط المحبة 0
ولهذا لا يوصف به الرب تباركوتعالى ولا يطلق في حقه 0
ثم الشوق وهو سفر القلب إلى المحبوب أحث السفر وقدجاء إطلاقها في حق الرب
تعالى كما في مسند الإمام أحمد من حديث عمار بنياسر إنه صلا صلاة فاوجز فيه
فقيل له في ذلك فقال أما إني دعوت فيها بدعواتكان النبي صلى الله عليه وسلم
يدعو بهن اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتكعلى الخلق أحيني إذا كانت الحياة
خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لياللهم إني أسألك خشيتك في الغيب
والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرضاءوالغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى
وأسألك نعيما لا ينفذ وأسألك قرة عينلا تنقطع وأسألك الرضاء بعد القضاء وأسألك برد
العيش بعد الموت وأسأل لذةالنظر إلى وجهك الكريم وأسألك الشوق إلى لقائك في
غير ضراء مضرة ولا فتنةمضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وفي أثر آخر
طال شوقالأبرار إلى وجهك وأنا إلى لقائهم أشد شوقا وهذا هو المعنى الذي عبر عنه
صلىالله عليه وسلم بقوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وقال بعض أهل البصائر
في قوله تعالى من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لآت لما علم سبحانه شدة
شوق أوليائه إلى لقائه وان قلوبهم لا تهدي دون لقائه ضرب لهم أجلا موعداللقائه
تسكن نفوسهم به وأطيب العيش واللذة على الإطلاق عيش المشتاقينالمستأنسين
فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة ولا حياة للعبد أطيب ولاأنعم ولا أهنأ منها فهي
الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى من عمل صالحامن ذكر أو أنثي وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة وليس المراد منها الحياةالمشتركة بين المؤمنين والكفار والأبرار
والفجار من طيب المأكل والمشربوالملبس والمنكح
بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافا مضاعفةوقد ضمن الله سبحانه لكل
من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة فهو صادق الوعدالذي لا يخلف وعده وأي حياة
أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها وصارت هي واحدةفي مرضات الله ولم يستشعب
قلبه بل أقبل على الله واجتمعت إرادته وإنكارهالتي كانت منقسمة بكل واد منها شعبة
على الله فصار ذكر محبوبه الأعلى وحبهوالشوق إلى لقائه والأنس بقربه وهو المتولي
عليه وعليه تدور همومه وإرادتهوتصوره بل خطرات قلبه فان سكت سكت بالله وإن نطق
نطق بالله وإن سمع فبه يسمعوإن أبصر فبه يبصر وبه يبطش وبه يمشى وبه يتحرك وبه
يسكن وبه يحيى وبه يموتوبه يبعث كما في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه
وسلم فيما يروي عن ربهتبارك وتعالى أنه قال ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت
عليه ولا يزالعبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
به وبصرهالذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها في يسمع بي
يبصر وبييبطش وبي يمشى ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت
في شيءأنا فاعله ترددي عن قبضي روح عبدي المؤمن من يكره الموت وأكره مساءته
ولابد له منه فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي الذي حرام على غليظ الطبع كثيف
القلب فهم معناه والمراد به حصر أسباب محبته في أمرين أداء فرائضه والتقربإليه
بالنوافل وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب مما تقرب إليه المتقربون ثمبعدها النوافل
وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله فإذاصار محبوبا لله أوجبت محبة
الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى فشغلتهذه المحبة قلبه عن الفكرة
والاهتمام بغير محبوبه وملكت عليه روحه ولم يبقفيه سعة لغير محبوبه البتة فصار ذكر
محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمامقلبه مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على
محبه الصادق في محبته التي قداجتمعت قوى حبه كلها له ولا ريب أن هذا المحب أن
سمع سمع لمحبوبه وان أبصرأبصر به وان بطش بطش به وان مشي مشي به فهو في
قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبهفالباء ههنا باء المصاحبة وهى مصاحبة لا نظير لها ولا تدرك
بمجرد الاخبارعنها والعلم بها فالمسألة خالية لا علمية محضة وإذا كان المخلوق يجد
هذا فيمحبة المخلوق التي لم يخلق لها ولم يفطر عليها كما قال بعض المحبين
خيالكفي عيني وذكرك في فمي **** ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقال الآخر :
وتطلبهم عيني وهم في سوادها **** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعى
ومن عجب أنيأحن إليهم **** فأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وقال ابن القيم في اغاثة اللهفان :
فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها : هيمحبته وحده
لا شريك له المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه فإن العبادةتتضمن غاية الحب بغاية الذل ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل وحده 0
ولماكانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر فيها
في حق الله تعالى : ما يختص به ويليق به كالعبادة والإنابة والإخبات ولهذالا يذكر فيها
لفظ العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى وقد يذكر لفظالمحبة كقوله : يحبهم
ويحبونه وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونييحببكم الله وقوله والذين آمنوا
أشد حبا لله
ومدار كتب الله تعالىالمنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها
والنهي عن محبةما يضادها وملازمتها وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين وذكر
قصصهمومآلهم ومنازلهم وثوابهم وعقابهم ولا يجد حلاوة الإيمان بل لا يذوق طعمه إلا
من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الصحيحين من حديث أنس رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوةالإيمان وفي
لفظ لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث من كان الله ورسولهأحب إليه مما
سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع فيالكفر بعد إذ أنقذه الله
تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار
وفيالصحيحين أيضا عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي
بيدهلا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين 0