القصة الثالثة : مدينة رومية العظمى
****
و هي مدينة عجيبة عظيمة دورها عشرون فرسخا ، و عليها ثمانية أسوار من الصخر ، عالية في الهواء ، و لها باب واحد لأن جوانبها الثلاثة يحيط بها البحر الأسود ، و الجانب الواحد إلى البر ، و هي في جبل داخل البحر و قد بنتها الجن لسليمان ، حفروا ذلك الجبل حتى بنوا المدينة فيه و البحر يعلو على المدينة ، و حول المدينة نهر من النحاس عمقه أربعون ذراعا ، و عرضه أربعون ذراعا ، و عليه ألواح من النحاس طول كل لوح خمسون ذراعا في عرض عشرين ذراعا في غلظ ذراعين فيما يقال و الله أعلم ..
و جعلوا من أول المدينة إلى آخرها أعمدة من النحاس صفين و على الأعمدة نهر من النحاس يدخله ماء البحر و تدخل السفن فيه بأثقالها و هذا من عجائب الدنيا ، و فيها فيما يقال كنيسة من ذهب عظيمة طولها ألف ذراع في خمسمائة ، و يقال أن في الكنيسة كثير من الصفر الأصفر الذي يشبه الذهب ، و فيها من الكنائس العظام و البناء العجيب الذي لم يشاهد الناس مثله قط .
و فيها من الصوامع المعمولة من النحاس و أنواع الحجارة آلاف يسكنها الرهبان و فيها من الأسواق أمر عظيم ، كل سوق بطول المدينة و بعضها بعرضها كل سوق عشرة فراسخ يباع في كل سوق أنواع الأمتعة و المأكولات من الفواكه و الأخباز و الطبايخ ، و أنواع الحلاوات و الأنفال ، و من آخر يوم السبت إلى صبيحة يوم الاثنين يدخلون الكنائس و يشتغلون بالصلاة و القربان ، و جميع سقوفها بالرصاص الأسود و إذا أراد الملك أن يخرج إلى خارج المدينة يخرج الخدم بين يديه على أيديهم أطباق الذهب ، فيها الدنانير ينثرونها عن يمين طريق الملك و يساره ، فيميل الناس إلى أخذ الذهب و يتركون للملك الطريق حتى يذهب فيه . يفعل ذلك من كثرة الناس و يسمى ذلك عندهم الملك الرحيم ، و هو بمنزلة الخليفة في المسلمين ، و جميع النصارى يرجعون إلى قوله و يطيعون قوله .
و سكان رومية أمة من النصارى يقال لهم نامش و هم أشجع من الإفرنج و أحسن وجوها من جميع الروم ، و عندهم صناع كثيرون في جميع الصناعات ، و يتخذ عندهم ثياب الكتان الذي لا يوجد مثله ، في الثوب الواحد مائة ذراع و أكثر أوله و آخره و وسطه شيء واحد ، لا يختلف فيه خيط واحد يحمل إلى بلاد الصقالبة و يعرف بالكتان الروسي .
و الروس هم من الصقالبة و يتخذون في رومية أنواعا من ثياب الصوف الملونة أحسن من اليباج الرومي ، يكون الذراع بدينار لا ينفذ منه المطر ، مع لينه و نعومته و حسن لونه من أحمر كالدم مصبوغ بالقرمز و هو حيوان ينزل من السماء في زمان الخريف على شجر البلوط يشبه الأنجل الأحمر المنتن ، الذي يكون في البيوت أحمر صغيرا ، مثل نوي الخرنوب الشامي ، منتن الرائحة ، فالقرمز يشبهه و هو أحمر مثله ، به يصبغ الصوف و الابراسيم ، و لا يصبغ به القطن و لا الكتان ، و لا كل شيء ينبت ، إنما يصبغ ما كان متصلا بالحيوان .
و هذا أيضا من عجائب الدنيا ، و صبغه لا يتغير أبدا ، فالعلم لله و الحمد لله دائما و أبدا ..
مقتبس من كتاب تحفة الألباب و نخبة الإعجاب