وعلى هذا، فإن جميع الدعوات القائمة على دعوى الإصلاح، والَّتي لا تركِّز على التوحيد، ولا تنطلق منه، يصيبُها من الانحراف بحسَب بُعدها من هذا الأصل العظيم، كالذين أفنوا أعمارهم في إصلاح معاملات الخَلقِ فيما بينهم، (ومعاملتُهم) للخالق-أي: معتقدهم فيه- مجانب لهدي السلف الصالح .
أو كالذين أفنوا أعمارهم في مصاولة أنظمة الحكم بغية إصلاح النَّاس من طريقها ، أو بمعالة أنواع من السياسات للانقضاض على سلطانِها ، ولا يكترثون لفساد عقيدتهم وعقيدة مدعوِّيهم !
فكيف إذا كانوا - لأسباب حزبية – يعتِبون على الدعاة إلى التوحيد بزعم أن ذلك يضيع الوقت على أمة قد تكالب عليها الأعداء من كل مكان ! ويشنعون على المدافعين على جناب التوحيد بزعم أن ذلك يفرق المسلمين ولو لم يجمعهم إلا عبادة الأوثان ! ويسمون الذب عن حق الله بغير اسمه للتنفير منه، فيقولون: « مهاترات كلامية ! » أو « مهاترات بزنطية » !! نعوذ بالله من سخطه.
هذا ناهيك عمن يدعو إلى عقيدة فاسدة ويشنع على مخالفيه، فإنه لا مجال للتعرض له ههنا؛ لأن أساسه فاسد.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاة الاهتمام بهذا الأمر والبدء به، فعَن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: « إنَّك ستأتي قومًا أهلَ كتاب، فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ( وفي طريق: فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه عبادةُ الله )، ( وفي أخرى أن يوحِّدوا اللهَ ) فإن هم أطاعوك لذلك ( وفي رواية: فإذا عرفوا الله )، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في كل يوم وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم بأن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » (1) .
وهذا الحديث العظيم لم يترك لمنتصب للدعوة خيارًا، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا**.
وما بال الناس يعجبون من هذه الأولية، وحق الله في أن يُعبَد وحده أحق ما اشرأبت إليه الأعناق، ولهجت به الألسن؟ !
فهذا حق الله الخالص، فكيف هان على أرباب المناهج الدعوية اليوم؟ !
أليس حق الله أحقَّ ما فتحت له الأبواب، وفسحت له الرحاب؟ !
قال ابن القيم رحمه الله: « التوحيد مفتاح دعوة الرسل ... » وذكر حديث معاذ السابق (2).
وهو دعوتهم جميعا عليهم الصلاة والسلام، فلا وسَّع اللهُ صدرًا ضاقَ بذلك ذرعًا !
قال الله تعالى: {قَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ**.
و قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ**.
و قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ**.
و قال: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ** ...
وهكذا مهما اختلفت الأمم، وتباينت مشاكلها، فإن الدعوة إلى التوحيد هي الأصل، سواء كانت مشكلتهم اقتصادية كما في أهل مدين، أو كانت خُلُقية كما في قوم لوط-عليه الصلاة والسلام-.
ولست بحاجة إلى أن أقول: أو كانت سياسة؛ لأن جميع هؤلاء الشعوب لم يكونوا يُحْكَمُونَ بما أنزل الله .
-----
(1) رواه البخاري (1458،1496)..، ومسلم (30، 29) .
(2) مدارج السالكين (3/443) .
يتبع إن شاء الله تعالى .