رابعاً : النظرة العامة لموضوع الجن والشياطين والاستعانة :
هذا ولقد قدمتم بحثاً تفصيلياً أخيتي الفاضلة حول موضوع ( الاستعانة بالجن ) أذكره لكِ على النحو التالي :
كانت النظرة - لبعض الطوائف المنحرفة - للجن قائمة على تصورات فاسدة ، فمن قائل : إن الجن شركاء لله في الخلق والتدبير 0 ومن قائل : إن إبليس مع جنده يمثلون الشر في جهة ، ويحاربون الله وملائكته في جهة أخرى 0
وكان الاعتقاد السائد أن الجن يعلمون الغيب ، وذلك بما كانوا يلقونه إلى الكهان عندما كانوا يسترقون أخبار السماء ، فيزيد الكهان على الكلمة من الحق مائة كذبة كما ورد في الحديث ، فيصدق الناس ذلك 0
وكانوا يتصورون أن للجن سلطانا في الأرض ، إلى غير ذلك من هذه التصورات المنحرفة الجائرة 0
هذه التصورات المختلفة عن الجن كان لها تأثير على تفكير وسلوك هؤلاء الناس وأعمالهم وإرادتهم كمـا أخبرنا القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعال : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) ( سورة الجن – الآية 6 ) ، ومن خلال أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية ، يتضح أنه كان للجن تأثير على سلوك مشركي العرب ، حيث كان أحدهم يعوذ بالجن عند المخاوف والأفزاع ، وأثر ذلك على عقائدهم من حيث التوجه إلى عبادة الجن والذبح لهم ، محاولين استرضائهم بأي شكل من الأشكال ، ولا يخفى أن التوجه بالعبادة والتعظيم لغير الله من سائر الخلق فساد أي فساد في السلوك ! ناشئ عن فساد التصور والاعتقاد الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه لإنقاذ البشرية من مغبته ، بتصحيح تصوراتهم وتقويم سلوكهم ، بما بينوه من أن الله هو خالق الجن والإنس وسائر الموجودات ، وأنهم يستوون جميعا في عدم قدرتهم على تغيير سنة من سنن الله سبحانه وتعالى التي وضعها في هذا الكون ، وأنهم جميعا واقعون تحت سلطان الله وقهره ، وأن التوجه لغيره سبحانه بعبادة أو تعظيم شرك كبير ، يستحق فاعله الخلود في النار 0
ونتيجة لتلك العلاقة القائمة بين الإنس والجن منذ أمد بعيد ، كانت الاستعانة 0 والمتأمل للكلام السابق يرى أن العلاقة التي تقوم بين الطرفين بمجملها لا تأتي بخير ، وذلك لقيام هذه العلاقة بين عالم محسوس وآخر غيبي لا نعرف كنهه ولا طبيعته إلا ما أخبر به الحق جل وعلا في محكم كتابه أو قررته السنة المطهرة ، فالإسلام حدد السلوك والعلاقة والتصور الكامل بين هاذين العالمين 0
وقد تكلم الكثير من عامة الناس وخاصتهم عن موضوع الاستعانة ، فمنهم من أباحها ، ومنهم من توقف عنها ، ومنهم من لم يبحها وحذر منها وبين خطورتها 0 ولأهمية ذلك 000 كان لا بد من وقفة جادة نستعرض فيها التصور الكامل المبني على النصوص القرآنية والحديثية ومنهج السلف الصالح وأقوال أهل العلم قديما وحديثا ، دون تحكيم عقل أو منطق ، أو تحقيقا لأهواء أو نزوات أو شهوات ، وبحث هذه المسألة ضمن الأطر الشرعية ، ببصيرة وبينة ، لكي يتسنى الوقوف على الحقيقة والطريق السوي المستقيم 0
و سأقوم بتفنيد الفقرة السابقة:-
ان التصورات الفاسدة عن الجن, مثل علمهم الغيب لأو ان لهم سلطانا على الأرض أو . . . .. تلك التصورات الفاسدة تدعونا الى تبصير الناس و تعليمهم حقيقة الجن و ليس اغلاق الباب نهائيا أمام العلاقة بين العالمين.
التصورات الفاسدة تدعونا لنحارب الجهل و الاعتقاد الخاطئ عند بعض الناس و لكننا نختار الحل الأسهل و هو ان نغلق الباب نهائيا, كما أكرر مرة أخري ان الجن الذين كانوا يتعاونون مع الكهان اخواني كانوا من طائفة الكفار, لو قام مسلم بذلك "على سيبل الفرض" لخرج من ملة الاسلام, كمأ أكرر مرة أخري انه إذا كان مشركي العرب "يعوذون" بالجن فنحن لا نبحث الاستعاذة بالجن, فقطعا هي حرام و لكننا نبحث "العلاقة المحمودة بين الطرفين", الاتصال بالصالحين.
وأتوقف عند جملة " ونتيجة لتلك العلاقة القائمة بين الإنس والجن منذ أمد بعيد ، كانت الاستعانة"
وأقول:
ان الاستعانة بالجن نتجت عن اسباب كثيرة, فالاستعانة بالجن في الحرام و في العصيان و في الأمور المذمومة نتجت كما قال الاخ عن التصورات و المعتقدات الخاطئة.
أما الاستعانة بهم في الأمور المحمودة و هو ما أقرة شيخ الاسلام, فاعتقد انها قامت على تصور صالح لا يعظم الجن و في نفس الوقت لا يبخس حقهم او يرميهم بالباطل, كمن يخلط بين الجن و الشياطين, و من يقول ان الاصل في الجن الكذب و ما الى ذلك.
و دعوني اخواني اخبركم بحقيقة اتضحت لى من التجربة العملية القاطعة, الجن اخواني يمثلون عالما متكامل, قد اعطاهم الله العقل, و معني وجود العقل اي انه توجد حضارة, و حضارة ضاربة في القدم, بها نظم سياسية واقتصادية و تشريعية, و بها نظام اجتماعي قد يختلف في عاداته عنا نحن البشر, و منهم الاطباء و المحامون و الزراع و التجار, و كلا منهم موكل بعمل ما داخل المنظومة المتكاملة التى تقوم عليها المملكة و الكل فيها يخضع لملك واحد و يأتمر بأمره.
ما أريد ان اخلص اليه هو:
ان حالات المس التى قد تصيب الانسان, و الجن الذين يأتون الى الانس يتلاعبون بهم و يحولون حياتهم الى جحيم (كلامي لا ينطبق على الموكلون بسحر) كل هؤلاء الجن من حسالة المجتمعات هناك او من "الهاربون من العدالة" او المطرودون من المملكة او الدولة لسوء اعمالهم, إذن انهم اسوء و اخبث نموذج يمكن ان نقابله في عالم الجن.
أما الموكلون بسحر فهم مكلفون من الحاكم او كبير القبيلة بطاعة الساحر ويكونون على قدر كبير من القوة, و غني عن القول انهم من قبائل كافرة.
أما الجن المسلم المتعاونون مع البشر فأود أن انوه "ايضا من خلال التجربة العملية" انهم لا يقدمون على التعاون مع "ألمستخدم" الا بناء على اذن من حاكم القبيلة المسلم, و بناءً على عهد يتم تحديد بنوده بين الطرفين منذ أول لقاء.
ان مجموعات الجن التى تساعد الناس و تقاوم الفئات المنحلة ليست قادمة الينا بعشوائية او اعتباطا, و لكنها مجموعات يمكن تشبيهها بالمجموعات العسكرية, يخصصها ملك من ملوك الجن المسلم لمساعدة اخوانهم, و هو لا يستطيع تخصيص أعداد لانهائية لهذا الأمر, فيوجد أمامه العديد من المهمات الأخري, هناك أمور الحكم و حماية المملكة و القيام على الأمن الداخلي بها, و العديد من الامور التي يقوم بها أي حاكم, فيقوم بتخصيص القدر الممكن من جنوده حسبما يستطيع لمساعدة المسلمين من الانس, و منهم من يغلق الباب نهائيا مكتفيا بإدارة أمور مملكته و التخطيط لمستقبلها دون ان يشغل عقله بمشاكل الانس, انهم عالم كعالمنا تماما اخواني, و لكن يمكن ان نطلق عليهم "سكان البعد الأخر", دول و منظمات و هيئات و حكومات و لكن الاختلاف ناتج عن اختلاف طبيعة العالمين, هم لا يحتاجون وسائل مواصلات كما يحتاج البشر, هم يعيشون الاف السنين اي ان اعمارهم اضعاف اضعاف اعمارنا نحن البشر, و لكن الميزة الوحيدة التى نتميزها نحن و التي اسجد الله من اجلها لنا الملائكة هي "العقل", نحن أعلى ذكاءً من الجن, فذكاء اغلبهم كذكاء طفل صغير, و هذا ما يميز الانس و هذا ما يجعل العديد منهم يحبون دائما الارتباط بالانس, و التعلم من طريقتهم في الحياة, و الى هنا و اتوقف عن السرد في هذه النقطة, راجيا المولى عز و جل ان اكون قد اوضحت.
اما عن الأية "انه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا", فكما ذكرت سابقا, نحن لا نبحث الاستعاذة بالجن و لكن نبحث الاستعانة بهم في الامور المباحة.
أقتباس:-
• علاقة الإنس بالجن كما بينها الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه :
1- (يقول تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) ( سورة الجن – الآية 6 ) 0
و قد سبق تبيان حقيقة هذا الأية.
2- 2)- يقول تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( سورة الأنعام – الآية 128 ) 0
أورد الاخ تفاسير هذه الأية الكريمة و انا هنا استشهد بما جاء هو به:
اولا تفسير الطبراني:-
أ - قال الطبري : ( قال حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ ) قال : كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي ، فيقول الجنيون : تتعوذون بنا ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ! ) ( جامع البيان في تأويل القرآن – 12 / 263 ) 0و كما هو واضح الامام الطبري يتحدث عن "الاستعاذة" و ليست الاستعانة في الأمور المحمودة.
ج - قال ابن كثير : ( أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس ، لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها ، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسؤهم ، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا ، أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة ( فزادوهم رهقا : أي إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة ، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم (فزادوهم رهقا) : أي ازدادت الجن عليهم جراءة
وهو ما يؤيد قول الطبري, و يتحدث عن "الاستعاذة" و عن سلوك جاهلى لدي مشركي العرب, من جائز ان يتكرر في عصرنا و إذا حدث فلا جدال انه خطأ.
و هو نفس تفسير القرطبي و الشوكاني.
3- يقول تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( سورة الأنعام – الآية 128 ) 0
أ - قال الطبري : ( ما قاله الإمام البغوي وزاد عليه وأما استمتاع الجن بالإنس ، فإنه كان فيما ذكر ، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم ، فيقولون : ( قد سدنا الجن والجن ) ( تفسير الطبري - 5 / 343 ) 0
ورد هذا التفسير للأية في موضوع "الاستعانة بالجن و الشياطين بين المشروعية و المنع", و هو التفسير الذي ينقده الكاتب و يسشتهد بما يخالفه.
الطبري يفسر الأية ان "الاستمتاع" هو "ما يناله الجن من الانس من تعظيمهم اياهم في استعانتهم, اود اولا ان اركز على هذه النقطة.
ان تعظيم الجن سلوك خاطئ لا شك في ذلك, و هو ما يناله الجن من السحرة و المشعوذون, حيث يتطلب الأمر ان يقوم الساحر بأمور الكفر و الشرك لإرضاء الجني.
ب - قال البغوي : ( قال الكلبي : استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر وخاف على نفسه من الجن قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم0 وأما استمتاع الجن بالإنس : هو أنهم قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن ، حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم ، وهذا كقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) وقيل : استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، وتسهيل سبيلها عليهم ، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي 0 قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم لبعض ) ( تفسير البغوي - 3 / 188 ) 0
و هو ما كرره البغوي ايضا في التفاسير الواردة في الموضوع, حيث ذكر (: استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، وتسهيل سبيلها عليهم)
إذن الاستمتاع هنا هو ما يقوم به السحرة من معاصي لخدمة الجن و ما يقوم به الجن من أفاعيل لتنفيذ أمر الساحر, و هو واضح الحرمة.
ولكني اركز هنا على "العلاقة بالصالحين من الجن", لا سحر و لا كهانة و لا خدمة للجني و لا تعظيم, و لكن تعاون على البر و التقوى و خدمة المسلمين.
و أما تفسير ابن كثير للأية فأستشهد بأول ما جاء في تفسيره و هو يكفيني حيث قال : يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
و هو يعني كما أعتقد, كل ساحر و كل جن استخدمه في شر, كل انسان عبد جنا او منحه من التعظيم و التقديس مما لا ينبغي إلا لله, و لهذا قال "الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا", إذن الاية تتكلم عن "العلاقة الاثمة" بين الطرفين, أو "الاستخدام المذموم" من الانس للجن, و هو ما لا مجال لبحثه, فهو واضح الحرمة, و اركز مرة أخري اننا نبحث "ألعلاقة المحمودة" بين الطرفين.
و هو ما ورد في تفسير القرطبي حيث قال "فاستمتاع الجن من الإنس أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم ، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم )"
و كما هو جلي, إن ادت العلاقة الى ما تم ذكره فهي حرام قطعا, و لكن ليست سببا لتحريم العلاقة نهائيا, لان منها المحمود و منها المذموم, و مجمل الأقول في هذه الأية انها تتحدث عن الكفرة من الانس و اتباعهم من الجن و عقابهم يوم القيامة.