9- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة:
قال أبو العباس على بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي في ترتيبه اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ما نصه: "ونهي النساء عن زيارة القبور هل هو نهي تنزيه أو تحريم فيه قولان: وظاهر كلام أبى العباس ترجيح التحريم لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه، ورواه الإمام أحمد و ابن ماجه والترمذي وصححه وأنه لا يصح ادعاء النسخ بل هو باق على حكمه، والمرأة لا يشرع لها الزيارة الشرعية ولا غيرها اللهم إلا إذا اجتازت بقبر في طريقها فسلمت عليه ودعت له فهذا حسن" اهـ.
وقال صاحب المهذب: "ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور".
وقال السيوطي في كتابه زهر الربى على المجتبى للنسائي عند الحديث المتكلم عليه في النهي: "وبقين أي النساء تحت النهي لقلة صبرهن وكثرة جـزعهن".
قال السندي: "وهو الأقرب لتخصيصهن بالذكر" والله أعلم.
وقال ا بن حجر الهيثمي الشافعي في كتابه الزواجر ما نصه: "الكبيرة الحادية والثانية والثالثة والعشرون بعد المائة اتخاذ المساجد أو السرج على القبور وزيارة النساء لها، وتشييعهن الجنائز" فساق حديث ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر ثم قال: "تنبيه: عد هذه الثلاثة هو صريح الحديث الأول في الأولين لما فيه من لعن فاعلها وصريح الحديث الثاني في الثانية وظاهر حديث فاطمة في الثالثة بل صريح رواية النسائي: ما رأيتن الجنة إلى آخره. ولم أر من عد شيئاً من ذلك بل كلام أصحابنا في الثلاثة مصرح بكراهتها دون حرمتها فضلاً عن كونها كبيرة فليحمل كون هذه كبائر على ما إذا عظمت مفاسدها كما يفعل كثير من النساء من الخروج إلى المقابر وخلف الجنائز بهيئة قبيحة جداً إما لاقترانها بالنياحة وغيرها أو بالزينة عند زيارة القبور بحيث يخشى منها الفتنة.." إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
قلت: وقد تقدم كلام النووي رحمه الله -وهو من كبار الشافعية- مصرحا بالتحريم وأما حمل ابن حجر الهيثمي التحريم على ما إذا عظمت الفتنة فهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما نعلم وقد صرح بذلك غير واحد، وأما بدون اقتران ذلك فتبين لك مما تقدم ومما يأتي أن مقتضى نصوص الشريعة وقواعدها التحريم وما أحسن ما قاله العيني رحمه الله تعالى: "إن زيارة القبور مكروهة للنساء بل حرام في هذا الزمان ولاسيما نساء مصر لأن خروجهن على وجه الفساد والفتنة وإنما رخص في الزيارة لتذكر أمر الآخرة وللاعتبار بمن مضى وللتزهيد في الدنيا" قاله صاحب عون المعبود نقلاً عنه.
وهذا قاله العيني في نساء مصر القرن التاسع فكيف لو رأى هو وأمثاله من الغيورين على الإسلام نساء القرن الرابع عشر وما يرتكبنه من التبرج والسفور وفتنة العري والاختلاط لما تردد هو وأمثاله في منعهن من الزيارة قولاً واحداً والله أعلم.
وقال الساعاتي في الفتح الرباني: "قال صاحب المدخل المالكي: قد اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال: أولاً المنع مطلقاً. ثانياً الجواز على ما يعلم في الشرع من الستر والتحفظ عكس ما يفعل اليوم. ثالثاً: يفرق بين الشابة والمنجـالة أي العجوز-. ثم قال: اعلم أن الخلاف في نساء ذلك الزمان أما خروجهن في هذا الزمان فمعاذ الله أن يقول أحد من العلماء أو من له مروءة في الدين بجوازه".
وقال العلامة صديق بن حسان البخاري في كتابه حسن الأسوة: "الراجـح نهي النساء عن زيارة القبور وإليه ذهب عصابة أهل الحديث كثر الله سوادهم". وقال صاحب المرعاة: "قال أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: النهى ورد خاصا بالنساء والإباحة لفظها عام والعام لا ينسخ الخاص بل الخاص حـاكم عليه ومقيد له".
وقد سئل سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف عن حكم وقوف النساء -عند دخولهن المسجد النبوي الشريف- على قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأجاب رحمه الله بفتوى قال فيها بعد أن ذكر أحاديث اللعن: "إن التعبير برواية زائرات القبور يدل على عدم تخصيص النهى بالإكثار من الزيارة كما توهمه بعضهم من التعبير في الروايات الأخرى بلفظ "زوّارات القبور" ثم قال بعد أَن ذكر تحقيقاً جلياً في المسألة "والخلاصة: أنه لا يجوز للنساء قصد القبور بحالة ولا يدخلن في عموم الإذن بل الإذن خاص بالرجال والله أعلم".
قلت: فالقول بالتحريم مطلقاً هو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، إذ هو الموافق لأمر رسول الله ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته فأما موافقته لأمره فإنه صلى الله عليه وسلم حكم على المرأة التي تبكي عند قبر على صبي لها بمنافاة ذلك للصبر والتقوى فأمرها بقوله لها: "اتق الله واصبري" فهذا موافق لأمره, وأما موافقته لنهيه فلقوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" فاجتمع في هذه المسألة أبلغ الطرق لإثبات هذا الحكم من أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم. وأما موافقته لقواعد شريعته ومصالح أُمته فمن وجوه عديدة نذكر منها ما يلي:
أولاً: من المستقر المعلوم من قواعد الشريعة المطهرة: أن درء المفاسد مغلب على جلب المنافع لاسيما عند عظمة المفاسد كـالحالة هذه إذ ليس في زيارة النساء للمقابر أي مصلحة راجحة كما هي في حق الرجال،والخروج في حقهن لا يكون إلا لحـاجة فكيف يقدم ما ليس بواجب على الواجب بـل كيف إذا لم يكن مشروعاً.
ثانيا: إن النساء ناقصات عقل ودين مع ضعف صبرهن وكثرة جـزعهن ومن جراء هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزع المؤدي إلى لطم الخدود وشق الجيوب وزيارتهن مجددة للحزن والبكاء والنوح على ما جرت به عادتهن الناتجة من نقصان الدين والعقل وقلة الصبر وكثرة الجزع فلو لم تحرم زيارة النساء للقبور إلا من هذا الباب لكفى فكيف إذا ترتب عليها من المخالفات الباطلة مالا يخفى على كل من شهد ما يقع منهن في زماننا هذا من تبرج بـزينة واختلاط وغير ذلك مما أنكره الشرع.
ثالثاً: إن حرمة التبرج والاختلاط- معلوم بـالضرورة من الدين والعقل السليم.فخروج المرأة من بيتها لغير ضرورة يؤدي في الغالب إلى ارتكـاب هذه الممنوعات شرعا بل والى ترك ما هو أهم من إحصانها وقرارها في بيتها والقيام بحقوق زوجها كما قال الله عز وجل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى** بل يؤدي إلى أعظم مما تقدم من وقوع اللعنة عليها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شهد ما يقع في عصرنا هذا عند مـزارات قبور الصالحين وغيرهم لاسيما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه علم غاية العلم أن ما ذكرناه من المفاسد المترتبة على فتح هذا الباب أمر واقـع لا يحتمل الشك والارتياب وأن منعهن من زيارة القبور هو مقتضى شرعه وحـكمه ومن محاسن شريعته. وكـم من مسائل منعها الشارع لا لذاتها ولكن لما يتوصل إليه بأسبابها من ذلك نهيه عن تجصيص القبور وتشريفها والبناء عليها وعن الصلاة إليها وعندها وعن شد الرحال إليها- كل ذلك لئلا يكون ذريعة إلى اتخاذها أوثانا,ً وهذا التحريم عام في حق من قصد ومن لم يقصد، كل ذلك حماية لجناب التوحيد وسلامة الفطرة، والمحافظة على ذلك معروفة بطبيعة العقائد الإسلامية والله المستعان.
خاتمة في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع:
لا يخفى على كل من كان هدفه التمسك بآداب شريعة الإسلام أن الخير كله في اتباع السلف وأن الشر في ابتداع الخالفين، فمن ثم لما لم ينقل عن القرون المشهود لها بالخير أن نساءهم يزرن المقابر تيقنـا يقينا لا يساوره شك أنهم فهموا المنع من الشارع من غير قيد، ومن المعلوم أيضا لما هم عليه من قوة التمسك بالسنة والولوع بها ومن الورع وحب التسابق إلى الخير وتبليغ ما جاء عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، أنه لو كـانت زيارة النساء خيراً لسبقونا إليها ولنقل عنهم جوازها كما نقل عنهم منعها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .وقد قال الأول:
والحـق يعـرفـه ذوو الألـبـاب
والحـق أَبـلج لا تزيـغ سبـيلـه
فلنفعل كما فعلوا وليسعنا ما وسعهم من الاستغناء بما أحـل الله عما حرمه فما أحسن الاقتصار على الطريقة المأثورة عن سلف هذه الأمة فإنهم كانوا أعلم بشريعة الله وأقوى تعظيما لأوامره وأوامر رسوله من سائر الأمم، ومن ظن أن في قدرته وإمكانه أن يفوقهم في تعظيم أوامره فقد خاب ظنه ورجـع بخفي حنين فوالله لو أنفق أحدنا مثل أحدٍ ذهباً لما بلغ مد واحد منهم ولا نصيفه كما ورد عنه ذلك عليه الصلاة والسلام ويذكر أن الإمام مالكاً رحمه الله كثيراً ما ينشد:
وشـر الأمور المحدثـات البـدائـع
وخـير أمور الديـن ما كـان سنـة
فما من بدعة تحدث في الإسلام إلا ويرفع في مقابلتها سنة من سنن الهدى، وحسبك في وجوب الاتباع والتحذير من الابتداع ما رواه المقدسي في المختارة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته".
وساق الشاطبي في الاعتصام من حديث: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلا" وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث وهو وإن كان مختصاً بالمدينة فغيرها أيضا يدخل في المعنى... ويروى عن أبي أويس الخولاني أنه قال: "لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها".
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق". وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب فتنة فتنهُ هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه". وقال أبو عمير عيسى بن محمد النحاس في صفة الإمام أحمد رحمه الله: "عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه وبالصالحين ما كان ألحقه، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها، وخصه الله بنصرة دينه والقيام بحفظ سنته ورضيه لإقامة حجته ونصر كلامه حين عجز عنه الناس".
ويروى عن الإمام مالك رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً".
وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه وكان ذلك في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم جعلها الله آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين والحمد لله الذي بتوفيقه تتم الصالحات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
"نشر ضمن مجموعة أجزاء حديثية للشيخ حفظه الله و شفاه"
منقول من شبكة النصيحة الإسلامية