3ـ ومن فوائد المرض: قرب الله من المريض، وهذا قرب خاص، يقول الله: ** ابن آدم، عبدي فلان مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده ** [رواه مسلم عن أبي هريرة]، وأثر: ** أنا عند المنكسرة قلوبهم **. 4ـ ومن فوائد المرض: أنه يعرف به صبر العبد، فكما قيل: لولا الامتحان لما ظهر فضل الصبر، فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير، وإذا فات فقد معه كل خير، فيمتحن الله صبر العبد وإيمانه به، فإما أن يخرج ذهباً أو خبثاً، كما قيل: سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد ( ومعنى اللجين الفضة )، والمقصود: أن حظه من المرض ما يحدث من الخير والشر، فعن أنس مرفوعاً: ** إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط **، وفي رواية: ** ومن جزع فله الجزع ** [رواه الترمذي]، فإذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه وخصوصاً إذا ضيع دينه، فإذا صبر العبد إيماناً وثباتاً كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له الرضا كتب في ديوان الراضين، وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له، أخرج مسلم من حديث صهيب قال: قال رسول الله : ** عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير **، وفي رواية لأحمد ** فالمؤمن يؤجر في كل أمره ** فالمؤمن لابد وأن يرضى بقضاء الله وقدره في المصائب، اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحدة من السراء والضراء في حقه تفضي إلى قبيح المآل ؛ إن أعطاه طغى وإن ابتلاه جزع وسخط. 5ـ ومن فوائد المرض وتمام نعمة الله على عبده، أن ينزل به من الضر والشدائد ما يلجئه إلى المخاوف حتى يلجئه إلى التوحيد، ويتعلق قلبه بربه فيدعوه مخلصاً له الدين، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، ومستخرج الشكر بالعطاء، يقول وهب بن منبه: ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [فصلت:51]، فيحدث للعبد من التضرع والتوكل وإخلاص الدعاء ما يزيد إيمانه ويقينه، ويحصل له من الإنابة وحلاوة الإيمان وذوق طعمه ما هو أعظم من زوال المرض، وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين الذين يصبرون على ما أصابهم فلا يذهبون إلى كاهن ولا ساحر ولا يدعون قبراً، أو صالحاً فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، ولكل مؤمن نصيب، فإذا نزل بهم مرض أو فقر أنزلوه بالله وحده، فإذا سألوا سألوا الله وحده، وإذا استعانوا استعانوا بالله وحده، كما هو الحاصل مع نبي الله أيوب وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. وتأمل عظيم بلاء أيوب فَقَدْ فَقَدَ ماله كله وأهله ومرض جسده كله حتى ما بقي إلا لسانه وقلبه، ومع عظيم هذا البلاء إلا أنه كان يمسي ويصبح وهو يحمد الله، ويمسي ويصبح وهو راض عن الله، لأنه يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فلم يشتك ألمه وسقمه لأحد، ثم نادى ربه بكلمات صادقة أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فكشف الله ضره وأثنى عليه، فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقد ورد في بعض الآثار: ** يا ابن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك **. 6ـ ومن فوائد المرض: ظهور أنواع التعبد، فإن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، كالخشية وتوابعها، وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها، فكم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبعده عن الغي، وكم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته، فبدأ بعد ذلك يسأل عن دينه وبدأ يصلي، فكان هذا المرض في حقه نعمة وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج:11]، وذلك أن على العبد عبودية في الضراء كما أن عليه عبودية في السراء، وله عبودية فيما يكره، كما أن له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الناس من يعطي العبودية فيما يحب، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، وفيها تتفاوت مراتب العباد، وبحسبها تكون منازلهم عند الله، ومن كان من أهل الجنة فلا تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج من الدنيا نقياً. يروى أنه لما أصيب عروة بن الزبير بالأكلة في رجله قال: ( اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت )، ثم نظر إلى رجله في الطست بعدما قطعت فقال: ( إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم ).