الخطبة الثانية
عباد الله : غربة الديار والأوطان من أنواع الغربة المؤلمة ، فلا لا مكانَ في الحياةِ، بالنِّسبةِ للإنسان، أجملُ وأبهى من المكان الذي ولد فيه وترعرع، وتفيأَ ظلالَه وارتوى من فراتِ مائِهِ، فهو جزء من كِيانِ الإنسانِ، فمهما ابتعد عنه، وشطت به الدارُ، فلا بد أن تبقى أطلالُ بلادهِ في ثنايا مُخَيّلتِه، وكثير من الناس من ارتشف شراب الهجر والغربة، في كؤوس من الحنين والأشواق، وكم من مغترب قال بلوعةٍ الألم:
كمْ منزلٍ في الأرضِ يَأْلفهُ الفتَى * وحنينهُ أبداً لأوّلِ مَنزلِ
وكم من مهاجرٍ يتغنى صباحَ مساء بقول القائل:
بلاديْ وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ * وأهلِي وإنْ ضنُّوا عليَّ كِرامُ
أيها المسلمون: الكلُّ يعلم أنّ طريق الهجرة وعرةُ المسلك، ومليئةٌ بالمنغّصات، ومهما بقي الإنسان في بلاد الغربة فاسمه "غريب"، وتبقى ساعةُ الوداع مؤثّرة، والوقوفُ على الأطلال يرافقه البكاء، حتى الصحابة رضي الله عنهم، عندما هاجروا إلى المدينة - كما تذكر عائشة رضي الله عنها - تذكّروا مكة وجبالهَا، وخاصة أنّ المدينة أوبأُ أرض الله من الحمّى، وقد أصابت الحمّى بعضَ الصحابة، وكان بلالٌ إذا أقلع عنهُ الحمّى اضطجعَ بفناء البيت ثمّ يرفعُ صوته :
ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنّ ليلةً * بوادٍ وحَوْلي إذْخرٌ وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يوماً مِياه مَجنّةٍ * وهل يبدوَن ليْ شَامَةٌ وطَفِيلُ
قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "اللّهم حبِّبْ إلَينا المدينةَ كحبِّنا مكّةَ، اللّهم وصحّحها وبارك لنا في مُدّها وصاعِها، وانقلْ حُمَّاها واجعَلْها بالجحفَة" ، فغرس الله بعد ذلك حبَّ المدينة في قلب الصحابة ومَنْ بعدهم أبدَ الدهر.
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ * مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ * عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكا
لقد ألِفَتهُ النفسُ حتى كأنّهُ * لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا