خروجه إلى الطائف: فخرج إلى الطائف وكانت أقرب الحواضر إلى مكة، خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله – جل وعلا – فلم يكونوا بأحسن حظًّا من كفار قريش، سخروا منه، وأمروا صبيانهم أن يرجموه، فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه ، ولجأ إلى حائط في الطائف ولمَّا لجأ إليه – صلوات الله وسلامه عليه – رق له بعض الكبراء وأرسلوا له غلامًا نصرانيًّا يقال له: عداس، ومعه قطف من عنب. فلمَّا وضع العنب بين يديه، قال : «باسم الله»، فقال الغلام: هذا شيء لا يقوله أهل هذه البلدة! فقال صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟ وممن؟» قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال : «من بلدة النبي الصالح يونس بن متى؟» قال الغلام: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: «هو نبي وأنا نبي»، فأكب الغلام على رسول الله r يقبله حتى لامه سادة ثقيف يومئذ. ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيدًا ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة. فإذا انقطعت أسباب الأرض، لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فورد عنه أنه r بث إليه شكواه، ورفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه نبي مرسل، فناجى ربه قائلاً: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت أرحم الراحمين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبي حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». فتحت لهذه الدعوات أبواب السماء، فما كاد ينزل من الطائف من وادي نخلة، حتى أرسل الله تعالى له نفرًا من الجن مؤمنين به، حتى تطمئن نفسه، ويسكن قلبه، ويعلم أن العاقبة له: ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ[ [الأحقاف: 29]. فاطمأنت نفسه r شيئًا فشيئًا – صلوات ربي وسلامه عليه -، ثم بعث إلى الملأ من قريش، يخبرهم برغبته في دخول مكة، ويريد أن يدخل في حلف أحدهم، فَردَّه ثلاثة منهم، ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، رغم أنه مشرك، استبقاءً للمسلمين حتى لا يتعرضوا للأذى. رحلة الإسراء والمعراج: بعد رحلة الطائف، مَنَّ الله عليه برحلة الإسراء والمعراج، فجاءه جبريل، وهو نائم في الحجر، فشق صدره، وغسل قلبه بماء في طست من ذهب ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناءً مُلئ إيمانًا وحكمة، ثم قدِّم له البراق، ثم أُسري به إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وربط دابته في مربط للأنبياء هناك. ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، لمَّا صد أهل الأرض أبوابهم أمامه، فتح الله له أبواب السماء، فاستقبله هنالك سادات الأنبياء، بدأ بآدم، ثم ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ثم بيوسف بن يعقوب – عليهما السلام -، ثم إدريس، ثم هارون، ثم موسى، ثم أبوه إبراهيم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم وصل إلى سدرة المنتهى، ورأى جبريل مرة أخرى على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها. أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر والجندي بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطرٍ ومن يَفُزْ بحبيب الله يأتممِ ركوبةٌ لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأنيق الرُّسُمِ مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتُّهمِ ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف، ثم توالت الأحداث فالتقى برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم التقى برهط آخرين فكانت بيعة العقبة الثانية، ثم أذن الله بالهجرة إلى المدينة المنورة . الهجرة إلى المدينة المنورة: هاجر قبله جمع من أصحابه ثم تآمرت قريش عليه، وقرروا قتله في مؤامرة مشهورة معروفة، ثم أخرجه الله – جل وعلا – من بين أظهرهم، دون أن يروه، وهو يتلو:]وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ[[يس: 9] ثم التحق بصاحبه أبي بكر، وأوى إلى غار في جبل ثور عرف بغار ثور، ومكثا في الغار، والطلبُ والرصدُ تبعٌ لهما، مرة بعد المرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار. أمرغ في حراء أديم خدي دواما بالغداة وبالعشي لعلي أن أنال بحر وجهي ترابًا مسه قدم النبي مكث في الغار ثلاثة أيام، وقريش تبعث الطلب والرصد، فوقفوا على مقربة من الغار، وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو أنَّ أحدهم نظر أسفل قدميه لرآنا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بالك باثنين الله ثالثهما» هذا نصر الله جل – وعلا – على هيئة الكتمان آتاه الله – جل وعلا – النبي، فلما سكن الرصد، وقل الطلب، خرج من الغار وصاحبه متوجهًا إلى المدينة المباركة، كانت الأنصار قد بلغهم خروجه فصاروا يخرجون كل يوم ينتظرون أوبته، ينتظرون قدومه، حتى وهج الشمس، ثم يرجعون إلى دورهم. فلما كان اليوم الذي وصل فيه خرج رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم، فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة!! وهو جد تشترك فيه الأوس والخزرج، هذا جدكم الذي تنتظرون، فسمع في المدينة التكبير، وابتدر القوم إلى السيوف، وخرجوا يستقبلون نبيهم . بالأمس خرج من مكة شريدًا طريدًا، في ظلمة من الليل، ثم ما لبث أن نصره الله، فدخل المدينة كأعظم ما يدخلها الملوك، والأنصار من حوله، كلَّما مر على ملأ قالوا له: هلم إلى العدد والعدة، هلم إلى العزة والمنعة يا رسول الله، وهو يقول: «خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة»، حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم ، على مقربة من بيت أبي أيوب، فعمد أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخله بيته، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «المرء مع رحله» ثم بنى مسجده وبدأ يضع النواة الأولى لدولة الإسلام – صلوات الله وسلامه عليه.