عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 17-03-2010, 05:56 PM   #3
معلومات العضو
عطر
إشراقة إدارة متجددة
 
الصورة الرمزية عطر
 

 

افتراضي

نشأته :
عاش بعيدًا عن أسرته ثم عاد إلى مكة، فكفله جده عبد المطلب، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشيٍّ له – صلوات الله وسلامه عليه – فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب ينهل من خلالها رسولنا r حتى تكونت شخصيته.
فنشأ بعيدًا عما فيه قومه؛ وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية نأى بنفسه عنها ولو عاش وحيدًا، قال جل وعلا: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا)مريم: 49 وذلك في حق نبيه إبراهيم .
فالبعد عن أهل الهواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح، وأول طرائق النجاح.

إرهاصات البعثة:
لكنه لم يكن بعيدًا عن محافل الخير، فشهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجيًا، شيئًا فشيئًا، من غير أن يعلم – صلوات الله وسلامه عليه -، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبيًّا؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤى، فلا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في المنام، حتى دنت البعثة، فكان يمشي في طرقات مكة، فتسلم عليه الحجارة: (السلام عليك يا نبي الله)، فيلتفت يمينًا وشمالاً، فلا يرى شخصًا ولا خيالاً فيسكت، ويبقى على حاله.
نزول الوحي والبعثة:
كان قد حبب إليه الخلاء، فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم في ليلة الواحدة والعشرين من شهر رمضان – على الأرجح – لما تم له أربعون عامًا – جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية للكون كله، إذ بعثه الله رحمة للعالمين، رحمةً من لدنه كما أخبر جل وعلا.
جاءه الملك، ولم يكن له عهد بالملك أصلاً، فأصابه من الرعب والفزع ما أصابه قال له الملك: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» (أي لا أجيد القراءة أصلاً) فردد الملك: اقرأ، ورسول الله باق على جوابه: «ما أنا بقارئ»، فيضمه الملك ثم يتركه، ويضمه ثم يتركه، حتى يشعره في تلك اللحظات أن الملك خارج عن حديث النفس، فليست تلك رؤيا يراها، أو حديثًا يتردد في نفسه فكان الملك يضمه ثم يتركه، حتى يبين أن هذا الحدث ظاهرة منفكة عن حديث النفس، منفكة عن رؤيا الأحلام، منفكة عن أحلام اليقظة، ثم قال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)العلق: 1-5].
نزل الرسول صلى الله عليه وسلم خائفًا وجلاً إلى زوجته خديجة، ترك النبي r عندها أبناءه وبناته، فلم تحدثه ماذا صنع البنون؟ ولا ماذا أصاب البنات، لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته، وإنما نسيت همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم، آوته إلى صدرها، وضمته إليها، ثم قال لها: «لقد خشيت على نفسي»، فطمأنته – رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها – فقالت: «والله لن يخزيك الله أبدًا»، ثم عددت مناقبه: «إنك لتطعم الفقير، وتعين على نوائب الدهر، وتقول الصدق»، وأخذت تسرد له مناقبه، وفضائله صلى الله عليه وسلم، فقدمت بذلك أنموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه المرأة مع زوجها.
إنَّ كثيرًا من الناس قد يأتي إليك محمّلاً بالهموم، مثقلاً بالخطايا، فليس من الصواب أن تسرد عليه أنت، ترده وتصده، لكنك ينبغي أن تنسى همومك في جانب همه إذا أردت له النفع والفائدة.
ثم أخذت بيده إلى ورقة بن نوفل، ابن عمها وكان رجلاً له حظ من علم وأثرة من كتاب، فقال له: ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى.
انقطاع الوحي:
اشتاق إلى الوحي؛ لأنه سمع القرآن، لكن الوحي انقطع، ولم يأت حتى يذهب الرعب، ويبقى الشوق إلى كلام الله – جل وعلا – تلبيةً من الله لنبيه r تلك اللحظات.
قال أكثر أهل العلم أنها بقيت ستة أشهر، وهي مرحلة فتور الوحي، أصاب النبي فيها من الحزن ما الله به عليم، حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يصعد إلى شواهق الجبال يريد أن يتردى منها مما أصابه من حزن، ومن شك في النفس منذ الحادثة الأولى.
ولكن بعض المحدثين يقولون: إن هذه الرواية على هيئة بلاغ، وهي لا تصح، وتنافي عصمة الأنبياء، والله تعالى أعلم، وإن كان نفيها أقرب إلى الصحة.
أيًّا كان الأمر فقد عاش النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فترة عصيبة وهي فترة انقطاع الوحي عنه، حتى أصبح يشك في نفسه فيما رآه في السابق، فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم إلى كلام الله، إذا به r كما عند البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة فإذا الملك يناديه فيلتفت، فإذا الملك على كرسيٍّ بين السماء والأرض قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب يقول له: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)المدثر: 1-7.
عودة نزول الوحي:
ثم نزل الوحي وتتابع وحمي بأعظم من ذلك، قال الله في آية يبين فيها علو قدره عند ربه فأقسم الله بمخلوقاته إرضاءً له – صلوات الله وسلامه عليه -:(وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)الضحى: 1-3.
هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئة آية قرآنية فيه من الإثبات للمكانة العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانة لا يرقى إليها أحد من الخلق كائنًا من كان، إلا أنها في نفس الوقت لا تعطيه أي حظ من الألوهية أو الربوبية، فالألوهية والربوبية كمالها وتمامها لله – جل وعلا – وحده لا شريك له فيها أبدًا.
بدء الدعوة:
أخذ يقوم بواجب الدعوة شيئًا فشيئًا، وهو ما عرف تاريخيًّا بالدعوة في مرحلتها السرية، تغير وجه قريش له، ونالوا منه صلى الله عليه وسلم، وساموه وأصحابه سوء العذاب وهو – عليه الصلاة والسلام – صابر محتسب يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يدعو الناس إلى التوحيد.
إيذاء قريش له :
كان أبو جهل يحمل راية السوء ضده، حتى بلغ من إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وسلمكما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود: أن جزورًا نحرت بالأمس فلما كان في الغد جاء r عند الكعبة وصلى، فقال أبو جهل وقريش في أنديتها: أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيضع سلا الجزور على كتفي محمد r، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل سلا الجزور وجاء إلى النبي وهو ساجد فوضع سلا الجزور بين كتفيه الطاهرين .
قال ابن مسعود: (فلو كانت لي منعة لرفعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ثم إنه ذهب إنسان إلى فاطمة – رضي الله عنها – وأخبرها الخبر فجاءت وهي جويرية يومئذ فرفعت سلا الجزور عن كتفي نبينا r، لما أتم صلاته دعا ثلاثًا، وكان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وسأل الله ثلاثًا، ثم قال: «اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة بن أبي ربيعة، وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف»، وسمي سبعة – صلوات الله وسلامه عليه -.
قال ابن مسعود: (فوالله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر) كما وعده الله – صلوات الله وسلامه عليه -.
إن وقفنا عند هذا الحديث، هناك يا أخي أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر، والعاقل من يستفيد من تلك التقاليد والأعراف ولا يصادمها.
فابن مسعود كان يعلم أن الأعراف الجاهلية لا تسمح للضعفاء ولا عديمي الظهر أن يكون لهم حظ في الناس، فكان يعلم أنه لا يمكن أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو ميت، فأبقى على نفسه، ولم يأت ليرفع سلا الجزور عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من الإيمان والتقوى بمكان لا يعلمه إلا الله.
وكانت الأعراف الجاهلية تنص على حفظ المرأة وعدم التعرض لها ولو بدأت بالأذى، فكان موقفًا لفاطمة أنها تقدمت بين صفوف الرجال، وحملت سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون أن يصيبها أذى.
فالعاقل من الدعاة، والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها، وهذه التقاليد والأعراف لا تبقى في كل زمان على هيئة واحدة، وإنما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، والشاهد والمشهود أن يوظفها الإنسان لصالح الدعوة ولصالح هداية الناس إلى طريق الله المستقيم.
عجزت قريش عن الإيذاء الجسدي الفردي فعمدوا إلى الحصار العام، فقدموا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلم لهم ابن أخيه – صلوات الله وسلامه عليه- فأبي، فقرر القرشيون مقاطعة بني هاشم لا يناكحونهم، ولا يبتاعون منهم، فأوى أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب في شعب لهم يقال له شعب بني هاشم، ومكث الحصار ثلاث سنين ورسول الله وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله – جل وعلا – به عليم.
بقي الحصار ثلاث سنين كان أبو طالب خلال مدة الحصار على كفره، إذا هجع الناس وناموا يعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده، ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو همَّ أحد بقتله يقتل ابنه بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كله ولله الحكمة البالغة لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله – جلا وعلا – ومات على الكفر، ولذلك حكمة لا يعلمه إلا الله – جل وعلا.
بعد أن ينتهي الحصار أو قبل أن ينتهي لا يخلو صراع بين الحق والباطل من نشوء أقوام كما يسمى في عرف السياسيين في هذه الأيام، دول عدم الانحياز، هي في عصرنا هذا على هيئة دول، لكنها في العصر السابق كانت على هيئة أفراد، فينشأ في المجتمع قوم حياديون، ليسوا مع قريش، وليسوا بمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان ما دعا إليه رؤساء قريش وزعماؤهم فتعاونوا على نقض المعاهدة، وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم أن يرى أهل المروءات الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، فيتسفيد منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة، ويوظف طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله – جل وعلا، ولا يصادمهم حتى لا تخسر الدعوة سندًا وقوة لها، فهؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان، لكن كانت في قلوبهم رحمة، وفي أنفسهم شهامة، وفي خصالهم مروءة وظفوها لنقض المعاهدة، وتم لهم ما أرادوا فنقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار؟
وبعد الخروج من الشعب – شعب بني هاشم – مات أبو طالب، وماتت خديجة في عام واحد، وقيل: بين موتهما ثلاثة أيام فبدا له أن يغير المكان لعل وعسى.

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة