الدرس السادس
التوكل
أوَّلاً: تعريفه:
لغة: مصدر توكَّل يتوكَّل، مأخوذ من مادَّة (و ك ل) التي تدلُّ على الاعتِماد على الغير في أمرٍ ما.
اصطلاحًا: صدق اعتِماد القلب على الله في استِجْلاب المصالِح، ودفْع المضارّ من أمورِ الدُّنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلّها إليْه.
والتوكُّل على الله عملٌ قلْبي من أعمال القلوب، وأثرٌ قويٌّ من آثار الإيمان، بل هو نِصْف الدِّين، ونصفه الآخر العبادة.
ثانيًا: منزلة التوكُّل ومكانته:
- يتحقّق إيمان العبد؛ قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ** [المائدة: 23].
- وهو دليل على الثِّقة البالغة بالله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ** [آل عمران: 173].
- الإعانة والنصرة والكفاية؛ قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ** [الطلاق: 3]..
- سبب من أسباب الرِّزْق؛ كما جاء من حديث عُمر: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((لَوْ أنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ على اللهِ حقَّ تَوَكُّلِه، لَرزَقَكُمْ كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا))[1].
- وصاحبُه يدخُل الجنَّة بغير حِساب؛ كما جاء من حديث عِمران بن حصين عن السَّبعين الَّذين يدخُلون الجنَّة بغير حِساب؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هُمُ الَّذينَ لا يَكْتَوُونَ ولا يَسْتَرْقُون ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون))[2]، والأحاديث والآيات في فضلِه متكاثرة.
ثالثًا: أنواع التوكُّل:
أولها: توكّل الموحّدين:
وهُم الذين اعتمدوا على الله ووثِقوا فيه، مع فعل الأسباب، من غير الاعتِماد عليْها والرّكون إليها.
ثانيها: توكُّل شركي، وهو على ضربيْن:
أ- أكبر: وهو اعتِماد كلّي على الأسباب، مع الاعتِقاد أنَّها تؤثِّر في جلْب المطْلوب ودفع المكروه.
ب- أصغر: وهو الاعتِماد على شخص في الرِّزق والمعاش من غير اعتِقاد تأثيره، ولكن يتعلَّق به فوق اعتِقاد أنَّه مجرَّد سبب، كمن يعتقد في راتبه الشَّهري من وظيفتِه فبدونِه حلول الفقْر والمسكنة.
الرِّزْقُ مَقْسُومٌ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبْ يَأْتِي بِأَسْبَابٍ وَمِنْ غَيْرِ سَبَبْ
فَاسْتَرْزِقِ اللَّهَ فَفِي اللَّهِ غِنًى اللَّهُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَبٍ حَدَبْ
ثالثُها: توكُّل جائز:
كمن يوكِّل إنسانًا في فعل ما يقْدِر عليه، من بيعٍ وشراءٍ وإجارةٍ ونحو ذلك، وقد وكَّل - صلَّى الله عليه وسلَّم - عروة بن الجعد ليشتري له شاة.
رابعًا: مكوِّنات التوكّل:
ذكر الإمام ابن القيم - رحِمه الله - أنَّ التوكُّل مركَّب من مَجموع أمور:
معرفة الرَّبّ وصفاته:
فيعلم بأنَّ الله الخالق المالك المدبّر لهذا الكوْن والمتصرِّف فيه، لا تغيب عنه غائبةٌ في الأرض ولا في السَّماء، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، له الأسماء الحسنى والصِّفات العلى.
إثبات في الأسباب والمسببات:
فلا يعتمد عليها كليًّا ويعتقد أنَّها مؤثِّرة، ولا ينفيها ويعطِّلها عن دوْرِها؛ بل يفعلُها دون الاعتِماد عليها بعد أن يعلم ويتحقَّق من صلاحيتها، فلا يتَّخذ سببًا محرَّمًا، أو عملاً دينيًّا غير مشروع، وإن كان مباحًا فينظر فيه: هل يضعف توكّله؟ فإن كان يضْعفه تركه، وإن لَم، حرَص على فعْلِه واجتهد في ذلك.
اعتماد القلب على الله واستِناده وسكونه إليه:
فلا يضطرِب من تبدُّل الأحوال وتغيُّرها، ولا يبالي بِها ولا يلتفِت إليها، وإنَّما هو كالطِّفل لا يعرف شيئًا يأْوي إليه إلاَّ ثدْي أمِّه، كذلك المتوكِّل لا يأْوي إلاَّ إلى ربِّه سبحانه.
رسوخ القلْب في مقام توحيد المتوكّل:
فلا بدَّ من التَّوحيد ليصحَّ التوكُّل، فتخرج من القلب كلُّ علائق الشِّرْك.
حسن الظَّنّ بالله:
فعلى قدْر حسن ظنِّك بربِّك ورجائك له، يكون توكُّلك عليه.
استِسْلام القلب له وانْجِذاب مؤثِّراته كلّها إليْه:
فالعبد يكون بين يدَي الله كالميت بين يدي مغسِّله يقلِّبه كيف أراد.
التفويض:
وهو روح التوكُّل ولبُّه وحقيقته، فيلقي أموره كلَّها إلى الله طلبًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، كتفْويض الابن العاجز الضَّعيف المغْلوب على أمره كلَّ أموره إلى أبيه المشفق عليه المحبّ له.
الرضا:
وهو ثمره التوكُّل ونتيجته بل أعظم فوائده؛ فإنَّه إذا توكَّل حقَّ التوكُّل رضي بما يفعله وكيله، وانظر إن شئْتَ صورًا من التوكُّل في حياة سلفك الصَّالح والأنبِياء من قبلهم لتزداد توكلاً.
فهذه ثمان درجات مَنِ استكملها فقد استكمل الإيمان.
ربَّنا عليك توكَّلنا وإليك أنبنا وإليْك المصير.
المراجع:
- مدارج السَّالكين، لابن القيم، 2/ 112.
- شرح كتاب التوحيد، لابن عثيمين، 2/ 666.
- الفوائد، لابن القيم، 86 - 87.
- جامع العلوم والحكم، 498.
- موسوعة نضرة النعيم، 4/ 1377.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أحمد 1/ 30 (205)، وابن ماجه (4164)، والتِّرمِذي (2344)، والنَّسائي في "الكبرى"، تحفة الأشراف 8 (10586)، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1/ 557.
[2] البُخَارِي 4/ 192 (3410) و 7/ 174 (5752)، ومسلم 1/ 137 (447).
على هذا الرابط :
http://www.alukah.net/articles/1/7720.aspx