هل تكرار النظر مباح مطلقًا طوال فترة الخطبة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
هناك من العلماء من قيد تكرار النظر بعدد؛ قال الزركشي: " وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ التَّكْرَارِ وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيرُهُ بِثَلَاثٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ الرُّؤْيَةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ((أَرَيْتُك ثَلَاثَ لَيَالٍ))"([1]) اهـ .
أي أنَّه لا يزيد عن ثلاث زيارات فيها النظر؛ ولكن تقييد ذلك قد جاء في الأحاديث بتحقق المقصود: ((ما يدعوه إلى نكاحها))، فيكون النظر بقدر الحاجة، بقدر ما يعرف المرأة، هل تصلح له أم لا([2])؛ فإن وجد ما يدعوه إلى نكاحها رجع إلى الأصل، وهو عدم جواز النظر فهي أجنبية.
قال الإمام ابن باز -رحمه الله-: " تكرار النظر باستمرار بدون حاجة لا ينبغي لأن الأصل التحريم ولأنه يفضي إلى الفاحشة؛ والجلوس للحاجة فقط والتي تتعلق بالنكاح من دون خلوة"([3]) .
وقال الإمام ابن عثيمين –رحمه الله-: " نعم؛ الخاطب لا ينبغي أن يكرر الذهاب إلى أهل الزوجة والتحدث إليها، ولكن ينظر إليها حتى يتبين له الأمر، فإذا لم يتبين له الأمر في أول مرة وأراد أن يعود؛ فلا حرج أن يكرر ذلك حتى يتبين له الأمر، أمَّا بعد أن يتبين له الأمر ويقدم ويعزم على الخطبة فإنَّه لا حاجة أن ينظر إليها"([4]) اهـ .
يقول الإمام الألباني –رحمه الله-: " الرؤية كما تعلمون جميعًا، هي قبل كل شيء ليس لشهوة يبتغيها الرائي، وإنَّما هو تنفيذٌ لحكم شرعي، وهو كما جاء في الحديث الصحيح: ((انظر إليها فإنَّه أحرى أن يُؤدم بينكما))، وفي الحديث الآخر: ((انظر إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا)) .
فإذا رآها هل تأملها؟ مثلاً في حدود الحديث الثاني: ((فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا)) .
هل رأى في عينيها شيئًا؟ لا .
إذًا لماذا يُريد أن ينظر إليها مرَّةً ثانية، بل مرَّات كما فهمنا أخيرًا؟
هذا ينقلنا إلى بحث أصولي، الأمر بالشيء هل يستلزم التكرار؟ لا .
إذًا لا ينظر إليها؛ إلاَّ في حالة واحدة، وهي أن يكون حينما نظر إليها لم يمتع بصره بالنظر إليها لسبب أو آخر، وهذا يُمكن أن يقع، مثلاً -وهذا يمكن كان في قديم الزمان أمَّا اليوم فأصبح نسيًا منسيًا- أن هذا الشاب خجول حيي، ما يستطيع أن يُمَكِّنَ بصره في خطيبته بحيث أن يتجلى بهذه النظرة معالمها جيِّدًا، فهو خجول، وهذا يعني يمكن -كما قلت- اليوم مش موجود، لكن نفترض هذا كسبب، ممكن نفترض سبب ثاني وهذا يمكن يكون واقعيًا، أهل البنت من أب وأخ وأخت شغلوه بالحديث معه عن تمتيع بصره فيها، ففعلاً هو ما تمكن من الوصول إلى الغاية التي أراد الرسول حينما قال: ((انظر إليها فإنَّه أحرى أن يُؤدم بينكما)) .
والأسباب عديدة، وسوف لا أكشف سرًا إذا حدثتكم بما وقع لي:
توفيت زوجتي الأولى -رحمها الله- وهي أم عبدالرحمن؛ فبدأت أفتش، فدُللت على رجل مصري سلفي في دمشق، وكان عنده كُتَّابٌ يعلم فيه الأطفال القرآن، فقيل لي: عنده بنت، واصلنا الناس أننا نريد أن نخطب، وصار اللقاء، أُدخلت علي البنت هذه -كما هي العادة- بكأس شاي أو قهوة، أنا رأيتها، لكني ما رأيتها، لم؟ لا لأني أنا صاحب حياء! -الشيخ والحضور يضحكون- وإنَّما رأيتها وما رأيتها لأنَّها مُزيَّنة ومغدرة بالبودرة والحمرة وإلى آخره، إذًا هم ضيَّعوا علي شخصيتها .
أحد الحضور: هذا هو الحياء يا شيخ .
الشيخ يضحك ويقول: فطلبنا أن نراها مرَّة أخرى، ولا أذكر الآن رأيتها أم لا، بس ما صار نصيب أن أتزوجها، فالشاهد -بارك الله فيك- أظن وضح الجواب.
الآن تذكرت شيئًا لا بدَّ من ذكره: أنتم تعلمون أن الأصل في النظر إلى المرأة أنَّه لا يجوز، فبالإضافة إلى ما قلناه حينما عدنا إلى القاعدة الأصولية، هل الأمر بالشيء يستلزم التكرار، قلنا: الجواب لا، فالآن أستدرك شيئًا آخر فأقول: بالإضافة إلى قوله -عليه السلام-: ((انظر)) أنَّه لا يستلزم التكرار، فإنَّه خلاف الأصل، هذا النظر خلاف الأصل، الأصل أن نظر الرجل إلى المرأة حرام، وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، كذلك النساء، فلا يجوز إذًا أن يكرر الخاطب نظرته ثانيًا وثالثًا، إلاَّ لتحقيق الهدف من أمر الرسول -عليه السلام- بسبب حصول سبب من الأسباب المانعة لتحقيقه.
وضربت لكم مثلاً بنفسي آنفًا، فإذا كان الأصل أنَّه لا يجوز النظر إلى المرأة، إلاَّ للخِطبة، ولا تقول الخُطبة كما يقول بعض الناس، لأنَّ الخُطبة تكون للخطباء، وليس للخطَّابين، فالمقصود: الغاية من الخطبة، أن يراها ويكون على بصيرة، هي سمراء هي بيضاء هي ضرساء هي شقراء إلى آخره، فإذا حصل هذا الهدف من النظرة الأولى حرُمَ عليه أن يُكررها، وإذا لم يحصل لسبب، مش شهواني! فحينئذ يجوز أن يُكرر مرَّة ثانية، أمَّا مرَّات فلا "([5]) اهـ .
إخفاء العيوب عند نظر الخاطب للمخطوبة
ليس للخاطب أن يخفي العيوب، وليس لأهل المرأة أن يخفوا عيوبها، بل الواجب البيان لأن المسلم أخو المسلم، ولا بأس بترك اليسير الذي لا يسبب نفرة([6])؛ وهذان مثالان:
أ-إذا أصيبت المرأة بتشوه في صدرها، فهل يجب عليها أن تخبر الخاطب ؟
ج- هذا التشوه يختلف، فإن كان يسيراً لا يضر ولا يسبب نفرة من الزوج فلا بأس بتركه وعدم إخباره .
ب-إذا كانت الفتاة تلبس نظارة، هل يلزمها أن تخرج للخاطب بالنظارة؟ وهل من حقه الشرعي أن يخبروه بأنها تلبس نظارة – مع العلم أن العدسات اللاصقة الآن حلت محل النظارة ؟
ج- لا حرج في خروجها إليه بالنظارة وعدمها.
وهذان الفتويان من فتاوى الإمام ابن باز –رحمه الله- من فتاوى نور على الدرب .
ونخلص بأنَّه لا يجوز إخفاء العيوب، ولكن أي عيوب؟ العيوب التي تسبب نفرة بين الطرفين كالعرج والعمى والعور والبرص وغير ذلك .
ولا يجوز للمخطوبة التبرج عند النظرة الشرعية، ولكنَّها لا تُمنع من تحسين هيئتها ولبسها عند رؤية الخاطب لها من غير ستر عيب ولا تدليس ولا سرف([7]) يقول العلاَّمة الفوزان: " لو جملوها فلا بأس، ولكن لا يجوز التدليس بحيث يتغير شكلها([8])" اهـ .
هل يجوز الزواج بدون نظر؟
النظر محل إرشاد وليس محل وجوب؛ قال ابن مفلح في الآداب: " وَلَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ يَصِفُوا الْمَرْأَةَ الْمَنْكُوحَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُهَا بِلَا رُؤْيَةٍ وَلَا صِفَةٍ، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ" اهـ .
وإن لم يتيسر النظر، فليرسل من ينظر إليها من النساء ويصفها له، وهذا يدل أن على المؤمن عدم العجلة في الأمور حتى ينظر ويتثبت ولا يتعجل في الأمور.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الحديث الوارد في ذلك حديث منكر لا يُستدل به، وهو حديث أنس -رضي الله عنه-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يتزوج امرأة، فبعث امرأة لتنظر إليها فقال: شمي عوارضها، وانظري إلى عرقوبيها))([9]) .
([1]) شرح البهجة الوردية .
([2]) قاله العلاَّمة الفوزان في شرحه لبلوغ المرام .
([3]) نور على الدرب ش363 وهو ما عليه الحنابلة بالجملة .
([4]) لقاء الباب المفتوح، 82ب .
([5])ش 427 د35 من سلسلة الهدى والنور .
([6]) الإمام ابن باز –رحمه الله- من فتاوى نور على الدرب .
([7]) الموسوعة الفقهية .
([8]) من شرحه لبلوغ المرام .
( [9]) قال الإمام الألباني في الضعيفة: منكر؛ أخرجه الحاكم (2/166) وعنه البيهقي (7/87) من طريق هشام بن علي: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس- رضي الله عنه- به .