السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
ـــــــــــــــــــــــــــ
من منزلة الصدق !!!
قال ابن القيم  رحمه الله  : 
[ فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق  
 وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم في الجنات  تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين   وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان  أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين التوبة  119 وقال تعالى  ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين النساء  69 فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين   وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال  فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرالهم محمد  21 وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم  من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال  ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون البقرة  177 وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان   وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال  ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم الأحزاب  24 والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر   وأخبر سبحانه أنه فى يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه قال تعالى  هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم المائدة وقال تعالى  والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الزمر  34 فالذي جاء بالصدق  هو من شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله فالصدق  فى هذه الثلاثة   فالصدق في الأقوال  استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال  استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد والصدق في الأحوال  استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به  تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه  ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق   فأعلى مراتب الصدق  مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل   وقد أمر الله تعالى رسوله  أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال  وقل  رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا الإسراء  80 وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال  واجعل لى لسان صدق في الآخرين وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى  وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يونس  2 وقال  إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر  5455 فهذه خمسة أشياء  مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء  هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة   فمدخل الصدق ومخرج الصدق  أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة   وكذلك مدخله المدينة  كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب  أصابه معهم ما أصابهم فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق وكان بعض السلف إذا خرج من داره  رفع رأسه إلى السماء وقال  اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك   يريد  أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه  بخروجه من مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته   وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله  لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان
 وأما لسان الصدق  فهو الثناء الحسن عليهمن سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه  وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم  50 والمراد باللسان ههنا  الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه   فإن اللسان يراد به ثلاثة معان  هذا واللغة كقوله تعالى  وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم  4 وقوله  واختلاف ألسنتكم وألوانكم الروم  22 وقوله  لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين النحل  103 ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى  لا تحرك به لسانك لتعجل به القيامة  16 وأما قدم الصدق  ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة   وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك   فمن فسره بها أراد  ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي  فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق وأما مقعد الصدق  فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل ومن علامات الصدق  طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب  حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عنهما عن النبي قال  الصدق طمأنينة والكذب ريبة   وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال  إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عندالله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عندالله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية   وكذلك الكذب معه في الأعمال  بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم   فلذلك كانت الصديقية  كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال  قال رسول الله  البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما  محقت بركة بيعهما.]
مدارج السالكين .
ـــــــــــــــــــــــــــ
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...