![]() |
العقيدة الصحيحة
العقيدة الصحيحة هي وحدها الأصل الصلب الذي يبنى عليه صرح القناعة الشامخ.
فالإيمان بالله سبحانه ومعرفته بأسمائه وصفاته وما تشتمل عليه من صفات الجلال والجمال، وكذلك الإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره كلها أصول توجب خصالاً حميدة يتولد منها خلق القناعة ذلك الخلق النفيس. فمن صفات الله جل وعلا صفة العلم والحكمة والخبرة، كما أخبر سبحانه عن نفسه في آيات كثيرة من كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والمؤمن الذي يستشعر قلبه كما علم الله سبحانه وسعة خبرته، وفيض حكمته يوظف استشعاره ذاك في تدبر كلامه وأمره وبيانه في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فينتج عن ذلك وقوفه على حقيقة وجوده، وحقيقة الدنيا, وحقيقة القناعة وفوائدها الثمينة في الدنيا والآخرة؛ لأنه يدرك أنه يتلقي هذه الحقائق من خالقها وخالق الوجود ومن العليم الحكيم الخبير ** وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ** . فالمؤمن الصادق الذي يعرف الله بصفاته مهما أرغمته نفسه على الانجراف إلى شهوات الدنيا، فهو يرغمها على القناعة بما يملكه من كنوز الاعتقاد. وكذلك الإيمان باليوم الآخر يدفع المؤمن إلى الزهد في الدنيا، ويحمله على جهل سائر همومه في اليوم الآخر يوم الحساب؛ لأنه يدرك أنه عابر سبيل لا قرار له فيها كما تلقى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «مالي وللدنيا! إنما مثلى ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظلِّ شجره ثم راحَ وتركها» [رواه أحمد والترمذي]، وهذا ما يجعله بالضرورة قنوعًا في سائر أحواله. وكذلك الإيمان بالقدر خيره وشرِّه يبعث قلب المؤمن على الاطمئنان الكامل فيتولد عن ذلك خُلق الرضا متراميًا في انشراح صدر المؤمن مهما كان حاله في الدنيا، لا يرى متسخطًا من قلة رزق ولا من ضعف حيلة أو حلول عيلة, وهذا ما يجعله أيضًا قنوعًا راضيًا مطمئنًا. إذًا فالقناعة خلق متولد من أصل عقدي واجب هو معرفة الله سبحانه والإيمان بقدره خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، وبحسب إيمان المسلم بهذا الأصل العظيم وإعماله له في واقع حياته تكون قناعته وزهده وورعه. وليس معرفة أصول الإيمان معرفة علمية سردية جافة من مضمونها العملي هو ما يميز القنوع من الجشوع, وإنما اليقين المقرون بالعمل هو ما يوجب القناعة وإن كان صاحبه لا يحفظ من أدلة تلك الأصول سوى معانيها ومضامينها الصحيحة الثمينة. ولهذا قد تجد من الناس من امتلك خلق القناعة نابعًا من عقيدته الصحيحة دونما ضبط لأدلتها العلمية بينما يوجد من قد ينتسب للعلم وليس له من القناعة من نصيب. قال الأصمعي: بينما أنا بالحاجز من عنزه إذ بصرت بأعرابي إلى جانب أكمه قد اشتمل بشملة فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: يا أعرابي، أين منزلك؟ قال: بالخضراء حيث ترى، وأشار إلى شجرة غير بعيدة. فقلت: وأين أهلك؟ قال: في ملك مالك! قلت: فما مالك؟ فقال الأعرابي: للناس مال ولي مالان ما لهما إذا تحارس أهل المال أحراسُ مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه ومالي اليأس مما يملك الناسُ كيف تكسب القناعة؟! القناعة خُلقٌ نفسي كسائر الأخلاق التي تتأثر بعوامل عدة، كالتربية والبيئة وزيادة الإيمان ونقصانه وعلو الهمة أو دونها. ** وأهم أسباب اكتساب هذا الخلق النفيس: * العلم: فالعلم الشرعي من أعظم مفاتيح القناعة؛ لأنه طريق معرفة حقيقتها وفوائدها ومضار التفريط فيها، ولذا فإنك تجد أغلب الزهاد الصادقين العباد الورعين هم أهل العلم وطلابه، وهذا واضح لمن تتبع تراجم علماء السلف في المصادر التاريخية. فالعلم الشرعي يوقف صاحبه على حقيقة الدنيا ويكشف أسرارها ومضار الاهتمام لها ويرغبه في الآخرة وجعل الهم كله لها. قال تعالى: ** وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ** . وقال تعالى: ** زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ** . ولذا فإنك تجد من أقوال علماء السلف حكمًا بليغة في وصف الدنيا وترهيب الناس من الحرص عليها. قال الحسن البصري رحمه الله: «إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب». وسئل إبراهيم بن أدهم كيف أنت, فأنشد يقول: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرفعُ فطوبى لعبد آثر الله ربه ... وجاد بدنياه لما يتوقعُ وقال عبد الله بن عون: «إن من قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم». وكما أن العلم يوقف المؤمن على حقيقة الدنيا فهو أيضًا طريق الإيمان والعقيدة الصحيحة وفهم التوحيد الذي هو أصل القناعة ومنبعها، ولذلك قال الله جل وعلا مخاطبًا نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ** فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ** . وقد تقدم أن معرفة الله بأسمائه وصفاته وتدبر معانيها الجليلة الجميلة وصحة الاعتقاد في اليوم الآخر والقدر خيره وشره لها الأثر الأكبر في اكتساب القناعة والزهد والرضا. * الإيمان الراسخ: ولهذا -أخي الكريم- فإن القناعة الناشئة عن الرضا بقدر الله وقضائه، وعن العلم بأحوال الدنيا وحقيقتها، وعن المعرفة العميقة بصفاته الله الحسنى وأسمائه العلى هي دليل عمق الإيمان في القلوب، وبحسب قوة الإيمان تكون قوة القناعة وصلابتها أمام فتن الدنيا في زمن التهافت والتنافس عليها. ولهذا تجد أغلب الآيات التي تذم الدنيا في القرآن الكريم تختم في الغالب بتذكير المؤمن بنعيم الآخرة، وفي ذلك إشارة لما لقوة الإيمان بالآخرة من تأثير بليغ على إنشاء القناعة في القلوب والزهد في الدنيا الفانية، فمن ذلك قوله تعالى: ** قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ** ، وقوله تعالى: ** وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ** . |
الساعة الآن 09:35 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com