![]() |
الصيام والتجهيز لرمضان لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
التربية الإسلامية – موضوعات مختلفة في التربية – دروس حوارية – الدرس (26-28) : الصيام والتجهيز لرمضان
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2006-08-28 ----------------------------------------------------------------------------- بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس التربية الإسلامية ، وسيكون محور هذا الدرس ما نحن قادمون عليه بعد عدة أسابيع من فريضة تعد ثاني أكبر العبادات في الإسلام . أصول الإسلام : لكن بادئ ذي بدء : العبادات في هذا الدين العظيم كما قال الإمام الشافعي : معللة بمصالح الخلق ، إن صح أن هناك مثلثاً لهذا الدين العظيم : المقطع الأول : العقائد . المقطع الثاني : العبادات . المقطع الثالث : المعاملات . المقطع الرابع : الآداب . فالدين عقيدة ، وعبادة ، وأحكام تعاملية ، وآداب . 1 – العقيدة : والعقيدة تقع على رأس هذه الأقسام ، وإن صحت العقيدة صح العمل ، وإن فسدت العقيدة فسد العمل .2 – العبادات : المقطع الثاني : هي العبادات ، العبادات كما قال الإمام الشافعي : معللة بمصالح الخلق ، فالصلاة بنص القرآن الكريم :﴿ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ( سورة العنكبوت الآية : 45 ) أ ـ الصلاة : الله عز وجل ملك الملوك ، خالق السماوات والأرض ، يمكن أن يأمرنا أن نصلي ولكن رحمة بنا أعطانا تعليلاًً للصلاة ، كلما كان الآمر أكمل أعطى المأمور التعليل قال :﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ ( سورة العنكبوت الآية : 45 ) إذاً : الصلاة معللة بمصالح الإنسان ، تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، والفحشاء والمنكر سبب هلاكه في الدنيا والآخرة . الآن هذا التعليل مهمته أنه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فما قطف ثماراً من الصلاة ، لئلا تقوم بأفعال لا معنى لها ، لئلا تقوم بأفعال لا فائدة منها ، لئلا تقوم بأفعال مفرغة من مضمونها ، قال :﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( الصلاة طهور )) [ ورد في الأثر] مستحيل أن يكون المصلي حقوداً ، الحقد مرض ، مستحيل أن يكون المصلي ظالماً ، الظلم مرض ، مستحيل أن يكون المصلي مستكبراً ، الكبر مرض ، واحد . الشيء الثاني : الصلاة حبور ، سعادة ،(( أرحنا بها يا بلال )) [ أبو داود] فالذي لسان حاله يقول : أرحنا منها لم يقطف ثمار الصلاة ، فرق كبير بين أرحنا بها ، وبين أرحنا منها . والصلاة نور ، من خلال الصلاة ترى الخير خيراً والشر شراً ، ترى الخير خيراً فتتبعه ، وترى الشر شراً فتجتنبه ، والدليل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾ ( سورة الحديد الآية : 28 ) فالصلاة نور ، والصلاة طهور ، والصلاة حبور ، والصلاة ميزان ، هل تستطيع ، وبلا مجاملة إن ارتكبت إثماً ، أو اعتديت على إنسان على ماله أو على عرضه أن تصلي ، بإمكانك أن تقف ، وتقرأ الفاتحة وسورة ، بإمكانك أن تركع وتسجد ، لكن ليس بإمكانك أن تتصل بالله ، لأن ذنبك حجبك عن الله عز وجل ، فالصلاة ميزان صارت .(( الصلاة مكيال فمن وفى استوفى )) [ رواه ابن المبارك عن أبي هريرة ] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ ( سورة النساء الآية : 43 ) فالذي لا يعلم ماذا يقول في الصلاة إذاً هو لم يصلِ الصلاة التي أرادها الله .(( ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منه )) [ أخرجه أحمد عن عمار بن ياسر ] الصلاة قرب ، وفي القرآن الكريم :﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ ( سورة العلق ) الصلاة دعاء : ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ ( سورة الفاتحة ) الصلاة ذكر :﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ( سورة طه ) الصلاة معراج المؤمن ، الصلاة أصل الطاعات ، وغرة العبادات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات . إذاً العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق ، هذه الصلاة .ب ـ الصيام : الصيام منطلق حديثنا .(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا )) [ رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ] (( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش )) [ أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ] معنى ذلك أنه في الصيام بحسب الواحد الديان :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ( سورة البقرة ) لعلك إذا صمت ، وتركت كل المعاصي والآثام ، وأقبلت على الواحد الديان ، واشتققت منه النور رأيت الحق حقاً والباطل باطلاً :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ إذاً العبادات معللة بمصالح الخلق .ت ـ الزكاة : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ ( سورة التوبة الآية : 103 ) الغني يطهر من مرض الشح ، قال تعالى :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ( سورة الحشر ) ومن أدى زكاة ماله أذهب الله عنه الشح ، والفقير يطهر بالزكاة من مرض الحقد ، لأن الفقير يحقد ، فإن أعطيت له الزكاة لا يغدو حاقداً ، والمال يطهر من تعلق حق الغير به .﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ ( سورة التوبة الآية : 103 ) التزكية أي أن نفس الفقير تنمو ، لأنه شعر أن المجتمع لم ينسه ، ونفس الغني تنمو حينما يشعر أنه أدخل الفرحة على قلوب الآلاف ، والمال ينمو ، التعليل :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ ( سورة التوبة الآية : 103 ) ث ـ الحج : (( من حج بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال : لبيك اللهم لبيك ينادى أن لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك )) [ ورد في الأثر ] لذلك قال تعالى :﴿ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ ( سورة المائدة الآية : 97 ) أنت لمجرد أن تعلم أن الله يعلم فقد حققت الثمرة من الحج . بل والنطق بالشهادة من أركان الإيمان ، أن تشهد أنه إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل وما حقها ؟ قال أن تحجبه عن محارم الله )) قلت كلمة في بداية الدرس : العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق ، لو أردنا أن نقف موقفة متأنية عند الصيام .من تعريفات الصيام : من تعريفات الصيام : أنه عبادة الإخلاص ، كيف ؟ قد يأتي رمضان في الصيف ، واليوم في الصيف طويل ، قد يقترب من 17 ساعة ، والحر شديد ، والعطش يكاد يميت الإنسان ، تدخل إلى بيتك ، وليس في البيت أحد ، الثلاجة فيها ماء عذب فرات بارد ، ولا تستطيع أن تضع قطرة ماء في جوفك ، لماذا ؟ من يحاسب ؟ لا أحد في الأرض يحاسبك ، لذلك : (( كل عمل ابن آدم له ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به )) [ متفق عليه ] أول شيء الصوم عبادة الإخلاص .حِكمة الصيام : دورة تعبّدية 1 – دورة تعبدية : لكن ما حكمته ؟ أنت في أشهر العام تأكل الطعام والشراب ، هل تشعر بذنب إذا تناولت طعام الإفطار ؟ هل تشعر بذنب إذا شربت كأس ماء ؟ في أيام الإفطار هل تشعر بذنب إذا قاربت زوجتك ، وهي حلال لك ؟ أبداً إطلاقاً ، ولا واحد بالمليون ، الأشياء المباحة الحلال التي أبيحت لك ، ولا شيء عليك لو مارستها محرمة في نهار رمضان ، إذا كان تناول الطعام والشراب وهو مباح في غير رمضان ، محرماً في رمضان ، فلأن أن تدع المعاصي والآثام من باب أولى ، كأن الله عز وجل قوى فيك الإرادة ، أنت ممتنع عن الطعام والشراب فهل يعقل أن تكذب ؟ هل يعقل أن تغتاب ؟ هل يعقل أن تقول الباطل ؟ هل يعقل أن تغش المسلمين ؟ أنت تارك الطعام والشراب الحلال تاركه ، فلأن تدع الحرام من باب أولى ، فكأن الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر قوى لك الإرادة على أن تصوم رمضان . الإنسان أحياناً يستثني دورة محدودة ، قد لا يحتمل أن يدرس لخمسين سنة قادمة ، أما دورة في ثلاثين يوما فقط يستطع .2 – شهر المغفرة : بالمناسبة : (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) [ متفق عليه ] (( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) [ متفق عليه ] للتقريب : المفاهيم المعاصرة واحد عليه 8 ملايين دينا ، أمواله كلها محجوزة ، عليه محاكمة ، وعليه سجن ، قيل له : افعل هذه الأفعال ثلاثين يوماً فقط ، وبعدها أنت معفى من كل شيء ، 8 ملايين ألغيت ، والمحكمة ألغيت ، والحجوزات ألغيت ، هل يتردد الواحد منا ثانية ؟ أنت في رمضان تفتح مع الله صفحة جديدة .(( من صام رمضان ـ هذا في الصحاح ـ إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) (( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) إذاً أنت أمام فرصة ذهبية ، كيف ؟ تفتح مع الله صفحة جديدة .دع الأشغال وحلَّ المشكلات إلى ما بعد رمضان : لكن هناك فكرة دقيقة ، يجب أن تكون سرعتك في رمضان مئة ، أنت هنا صفر ، أو واحد ، أنت لا تقدر أن تمشي على الواحد ، لـ29 شعبان ، وتقفز فوراً للمئة ، لا تستطيع ، المفروض أن تهيئ نفسك ، هناك مشكلة حلَّها قبل رمضان ، مشكلة عويصة أجّلها إلى ما بعد رمضان ، محاولة كسوة بيت افعلها قبل رمضان ، لأن رمضان شهر عبادة ، شهر تفرغ ، والحقيقة النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف في رمضان ، وهو انقطاع عن العالم الخارجي كلياً ، أنا قد لا أحثكم على أن تعتكفوا ، الحياة معقدة ، الحياة معقدة جداً ، ولكن معنى الاعتكاف أن تنقطع عن العالم الخارجي ، عن عالم القيل والقال ، والسؤال والجواب ، والنقد ، والهموم والأحزان ، هذا شهر دورة تدريبية مع الله ، لأن العبادة فيها شحنة . 3 – شهر الشحنة الإيمانية : أوضح مثل على ذك : الهاتف المحمول يحتاج إلى شحن ، فإن لم تشحنه تنطفئ شاشته ويسكت ، أصبح قطعة بلاستيك لا قيمة لها إطلاقاً ، وأنت كمؤمن تحتاج إلى شحن ، الشحن كم نوعا ؟ عندنا شحن يومي ، كلما وقفت في الصلاة من أجل أن تُشحن شحنة روحية ، لذلك :﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾ ( سورة المزمل ) حينما تُشحن في صلاة الفجر تشعر طوال اليوم أنك ترى الحقيقة ، وأنك مالكٌ لجوارحك ، وأن كلامك سديد ، وأن قلبك مستنير ، وأن نفسك مطمئنة ، وأن رحمة الله تحفّ بك ، وأن توفيق الله عز وجل يؤيدك . إذاً الصلاة شحنة ، لكن طبيعة الصلاة ثلث ساعة ، شحنة من الصباح إلى الظهر ، الظهر شحنة ثانية إلى العصر ، العصر شحنة ثالثة ، إلى المغرب ، المغرب شحنة إلى العشاء . صلاة الفجر ، كنت في الفراش ، فالسنة قبلية وأنت نائم ، فالسنة قبل الفرض تدريب ، الفرض صحوت ، باعتبار تعبك طوال النهار السنة في العشاء بعدية ، السنة أقرب إلى النوم ، الفجر السنة قبلية ، العشاء سنة بعدية ، في الفجر نفسك صافية ، وفي العشاء ركعتان تكفيان ، الظهر كنت في المحل التجاري ، واحد أخذ عليك مبلغا ، والثاني أزعجك ، ما اشترى ، والرابع طالبك بدينه ، أنت مشوش ، تصلي أربع ركعات ، اثنتين قبل ، واثنتين بعد ، دائماً الركعات القبلية تهيئة ، والبعدية ترميم ، ما فاتك من الفرض ترممه في السنة البعدية ، لذلك صلوات النهار طويلة ، أما الفجر قصيرة ، صحوت صافي الذهن ، شحنة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما )) [أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة ] رمضان ثلاثون يوما من الصيام ، ومن قراءة قرآن ، ومن الذكر ، ومن صلاة الفجر في المسجد ، ومن صلاة العشاء في المسجد ، وكل يوم عشرون ركعة تراويح ، وثلاثون يوما من الإنفاق ، وغض بصر ، وضبط لسان ، رمضان شحنة من العام إلى العام ، الحج شحنة إلى بقية العمر ، شهر من السفر وترك الأهل والأولاد ، واستقبال الكعبة ، والطواف ، والسعي ، ووقوف بعرفات ، ووقوف بمنى ومزدلفة … إلخ . إذاً : العبادات شحنات ، وكلما كان الأمد أطول كانت الشحنة أشد ، هذا معنى من معاني الصيام .4 – الصيام تقوية النفس على الإرادة : الصيام بادئ ذي بدء : عودك على أن تطيع الله ، لأنك تركت المباحات ، فلأن تدح المنهيات من باب أولى . إذاً المسلم يصوم بفمه وجوارحه في رمضان ، وفي شوال يفطر بفمه فقط ، وتبقى جوارحه صائمة إلى نهاية العام ، وغض بصره ، وضبط لسانه ، وتحري الحلال ، هذا طوال العام ، هذا واحد . إذاً : الصيام تقوية الإرادة على طاعة الله ، لكن نحن نتمنى من أعماق أعماقنا ألاّ يكون صيامنا صيام حديث ، موسم رمضان في المجتمعات المعاصرة موسم الأفلام ، موسم الفن ، موسم السهرات ، موسم الولائم ، موسم التخمة ، موسم السهر إلى ساعة متأخرة من الليل ، المؤمن يجعل من هذا الشهر شهر عبادة ، لا شهر لقاءات وولائم ، وما شاكل ذلك ، والطبقة المخملية ـ والعياذ بالله ـ صيام رمضان عندها فلكلور ، تأتي إلى الخيام الرمضانية تبدأ الخيمة بتناول طعام الإفطار ، وتنتهي بالرقص والموسيقى والغناء ، رمضان عند الشاردين موسم فني فقط ، وكل الأعمال الساقطة يكتبون عنها : ” إكراماً لقدوم شهر رمضان المبارك ” ، نحن كمؤمنين هذا الشهر شهر عبادة ، يمكن أن تقفز قفزة نوعية في هذا الشهر .5 ـ الشعور بالافتقار إلى الله : شيء آخر : الله عز وجل قال :﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ ( سورة النساء ) لكنه قد لا يرى ضعفه ، له منصب رفيع ، قوي الشخصية ، معه اتصالات ، ألف إنسان يخضعون له ، لكن برمضان الساعة 12 نشف لسانه ، خواطره كلها كأس ماء بارد ، كأس عرق سوس ، كأس عصير ، شيء بارد ، كأن الله أراد في رمضان أراد أن يشعرنا بافتقارنا إليه ، لما قال الله عز وجل في الأنبياء :﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ ( سورة الفرقان الآية : 20 ) ما معنى ذلك ؟ هذا الذي يأكل الطعام أي هو مفتقر في استمرار وجوده إلى أن تناول الطعام ، إذاً هو ليس إلهاً ، الله عز وجل قال :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)اللَّهُ الصَّمَدُ (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ ( سورة الإخلاص ) الصمد ، يعني أن وجوده ليس مفتقراً إلى غيره ، أما أنت فإن أغلقت أنفك تختنق ، أنت مفتقر للهواء ، وأكثر من ثلاث دقائق تموت ، وأنت مفتقر للماء ، ومفتقر للطعام ، ومفتقر للنوم ، ومفتقر لزوجة ، مفتقر إلى بعض الأدوات والأجهزة ، لذلك في رمضان يشعر المؤمن بافتقاره إلى الله عز وجل ، فما هي العبودية ؟ أن تفتقر إلى الله .﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ( سورة آل عمران الآية : 123 ) يعني مفتقرون ، أما في حنين فلم يكونوا مفتقرين ، فقالوا : (( لن تغلب اليوم من قلة )) [ أخرجه البيهقي عن أنس ] نحن كثر .﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ ( سورة التوبة ) أيها الإخوة ، إحساسك بالجوع والعطش نوع من الافتقار إلى الله ، أنت ـ عفواً ـ لا تعرف قيمة هذا القميص الذي ترتديه إلا في الحج ، حيث ترتدي منشفتين ، هنا قميص له أكمام ، له أزرار ، فضفاض ، هناك ترتدي منشفتين ، لا تعرف قيمة الثياب إلا في الحج ، لذلك من توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام : (( اللهم أرنا نعمك بوفرتها لا بفقدها )) [ ورد في الأثر ] الشيء بالشيء يذكر : نحن كنا ننعم بما يسمى بتوازن القوى في العالم ، بوجود معسكرين كبيرين بينهما حرب باردة ، وكلما تحرك معسكر ليأخذ ما ليس تصدى له المعسكر الآخر ، فكل الدول الضعيفة تنعم برخاء بأمن واستقرار ، لوجود معسكرين ، لكن يوم كنا نعيش هذه الحرب الباردة ما كنا نعرف أن في الأرض معسكرين ، أما حينما انفرد قطر واحد رأينا منه الأهوال ، رأينا منه القهر ، والنهب ، والسلب ، والإذلال ، رأينا منه أنه فرض علينا ثقافته وإباحيته . إذاً البطولة أن ترى النعمة بوفرتها ، لا بزوالها ، جميع الأغبياء يعرفون النعم عند غيابها ، لكن الأذكياء الموفقون يعرفون النعم بفورتها . لذلك مرة سأل وزير ملكا ، وقد طلب كأساً من الماء ، قال له : يا أمير المؤمنين ، بكم تشتري هذا الكأس من الماء لو منع منك ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : فإذا منع إخراجه ؟ قال : بنصف ملكي الآخر ، مُلك طويل عريض يساوي كأس ماء . لذلك نحن في رمضان مفتقرون إلى الله ، بكأس ماء ، لقمة طعام .6 ـ الشعور بمعاناة الفقر والجائع : شيء آخر : فكرة ، ومعاناة : لو أن لك صديقا نشأ خلاف بينه وبين زوجته ، وزوجته تركته إلى بيت أهلها ، أنت عندك فكرة أن زوجة صديقك ذهبت إلى بيت أهلها ، هذه فكرة لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تؤثر على سلامتك وسعادتك ، أما الصديق فيأتي ظهراً فلا يجد زوجة ، وطبخا ، ولا طعاما ، الأولاد يحتاجون إلى عناية ، الصديق عنده المعاناة ، وأنت عندك فكرة هجر الزوجة ، الفرق كبير . مثلاً : لو أريتك خارطة لقصر ، وفيها كل شيء ، الطوابق ، والغرف مساحاتها ، الشرفات ، هذه فكرة ، أما أن تملك هذا القصر فشيء ثانٍ . لو قلت لك : مئة مليون دولار ، هذه واضحة ، بين أن تملكها وأن تنطق بها فرق كبير جداً ، مئة مليون دولار ، النطق بها سهل جداً . لذلك في رمضان تعرف معاناة الفقير أبداً ، الفقراء في أول الثورة الفرنسية ما وجودوا خبزا ، تقول ماري أنطوانيت : يأكلون ( الكاتو ) ، إذا ما وجد أحدنا خبزا يأكل ( الكاتو )، وهو أطيب ، فلا معاناة إطلاقاً . لذلك قالوا :لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها *** أنت في رمضان يمكن أن تعاني مشكلة الفقير ، أنت جائع ، الذي ملأ معدته بالأكل لا يعنيه ، أما الجائع فمنظر الأكل ، ورائحة الطعام تعنيه ، إذاً : يمكن أن تشعر بجوع الفقير في رمضان ، وأن الجوع شيء لا يحتمل ، الله عز وجل ذكر نعمتين عظيمتين من نعمه ، فقال :﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ ( سورة قريش ) أكبر نعمتين على الإطلاق أن تأكل فلا تجوع ، وأن تأمن فلا تخاف ، الآن أكبر عقابين للأقوام الفاسدة :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ( سورة النحل ) أكبر نعمتين الشبع والأمن ، وأكبر نقمتين الجوع والخوف ،﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ إذاً أنت في رمضان فضلاً عن أنك تستعين بالصيام على طاعة الله التامة لأنك تركت الحلال ، تركت المباح فلأن تدع الحرام من باب أولى . وأعانك الله بالصيام على أن تشعر بجوع الفقير ، أعانك الله بالصيام على أن تشعر بعبوديتك لله عز وجل .الصيام عبادة جماعية : شيء آخر ، الصيام عبادة جماعية ، تصور بلدنا خمسة ملايين في دمشق يأكلون في ثانية واحدة عقب إطلاق مدفع الإفطار ، الطرقات فارغة ، عبادة جماعية ، النظام محبب ، فكأن الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نُنظم ، تجد في رمضان النظام ، الإمساك عن الطعام يتم مع أذان الإمساك ، الصلوات في المسجد ، الفجر في المسجد ، العشاء في المسجد ، الإفطار في وقت واحد ، لذلك الصيام عبادة جماعية ، يعلّم التعاون ، يعلّم النظام . حدثني مرة أخ والده ضابط ، نحن من ثلاثين سنة نتناول طعام الغداء مع دقات ساعة بيك بن ، الساعة الثانية ، في البيت نظام صارم ، وجبات الطعام لها أوقات . النظام حضارة أيها الإخوة ، أحياناً يأتي سائح أجنبي يرى الطرقات عند المغرب فارغة ، ما هذا ؟ يشعر أن هناك عبادة جماعية ، الله عز وجل أرادنا أن نكون منظمين . ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ( سورة الصف ) الصلاة أيضاً فيها نظام ، فيها أقات . مرة قال لي أحدهم : أنا أصلي قبل دخول العصر ، وهذا أكثر راحة لي ، هناك نظام صارم جداً في الصلوات الخمس ، وفي الصيام . حج رجلٌ بيت الله الحرام ، له منصب رفيع بمصر ، في أثناء العودة بالطائرة قال : والله هناك عناية بالغة ، لكن لو أقاموا الحج على خمس دورات ، كل شهرين دورة لا يكون هناك ازدحام ، أين هو من فهم هذه العبادة ؟! هي عبادة اجتماع . أنا كنت في القاهرة بمؤتمر إسلامي ، طربت طرباً شديداً لاقتراح وزير أوقاف مسلم قال : لو أن كل حاج باستمارته تكتب حرفته ، وعلى الكمبيوتر نفرزه ، مثلاً : مدرسو الجامعات يعقدون مؤتمرا بمنى لحلّ المشكلات ، والهموم المشتركة ، عندكم صناعيين يقيمون مؤتمرا ، وللمزارعين مؤتمر ، وللتجار مؤتمر ، ولأصحاب الوظائف المعينة مؤتمر ، الحج كأن الله أرادك أن تلتقي بكل المسلمين . والحقيقة في الحج يرى الإنسان من كل الجنسيات . إذاً : أراد الله من الصيام أن تكون عبادة جماعية ، والعزائم التي يقوم بها المؤمن ، ويفتقر إليها بعض المؤمنين تؤدى في رمضان بيسر وسهولة . إذاً : أيها الإخوة ، هذه بعض الملامح التي تلوح في الأفق بهذا الشهر الكريم الذي هو فرصة ذهبية لا تعوض إلا بعد عام آخر ، كي تصطلح مع الله .الخلاصة : بالمناسبة ، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض ، أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، إذا رجع العبد إلى الله أنسى الله الملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، إذا تاب العبد توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه ، والملائكة ، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ، ورمضان فرصة لفتح صفحة جديدة مع الله ، فرصة جديدة للإقبال على الله . |
شهر رمضان فرصة ذهبية سنوية تعقد فيها الصلح مع الله وتتوب إليه وترجع إليه وتقبل عليه ليفتح لك ربك كما وعدك صفحة جديدة الله يكرمك اخي الكرم |
بارك الله بكم
جزاكم الله خيراً على مروركم فلنتعاهد أمام الله أن يكون رمضان هذا العام نواة لنهضة ديننا و أمتنا |
الساعة الآن 03:39 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com