الاعتداد بالنَّفس بقلم : الشَّيخ توفيق عمروني
الاعتداد بالنَّفس بقلم : الشَّيخ توفيق عمروني - حفظه الله مدير مجلَّة الإصلاح بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ من أسوأ ما يُصابُ به المنتسب إلى العلم والدَّعوة إلى الله تعالى أن يكون معتدًّا بنفسه إلى حدِّ الغرور والعُجب ، والمفضي إلى احتقار الغَير وغمط النَّاس والحطِّ من شأنهم ، ومداخل هذا الدَّاء كثيرة من أهمِّها : الرَّغبة في الدُّنيا وطلب الرِّياسة والمحمَدة والتَّكثُّر بالأتباع وجحد فضل العالم وسبقه وتقدُّمه وسوء الظَّنِّ به وغمزِه فإذا ألَّمت أحدُ هذه الآفات بقَلب عبد فقَد أصيب في مقتَل ، فكيف إذا اجتمعت وهي تجتمع لا محالةَ ، لأنَّ سريانَ إحدَاها يستَتبع الَّتي تليها ، والَّذي يدفع أوضَار هذا السَّقم وأوحَاله هو شهود العبد لربِّه أنَّه الغنيُّ عن كلِّ ما سواه ، وشهادته على نفسه أنَّه الفقير المحتاج إلى ربِّه أنَّه كلِّ لحظة وكلَّ حين ، وأنَّ الخير كلَّه بيد الله ، وأنَّ النِّعمَة كلِّها من عند الله ، وأيُّ شيء يصيبُه من ذلك إنَّما هو تفضُّلٌ ومنَّةٌ منه سُبحانه وتَعالى ، وعندها يدرك أن ليسَ لنفسه فضل على أحد يجب أن يوفَّى أو حقٌّ على الخلق يجبُ أن يؤدَّى ، قال ابن تيميَّة رحمه الله : " العارفُ لا يَرى لهُ على أحد حقًّا ، ولا يشهَد له على غَيره فضْلاً ، ولذَلك لا يعاتبُ ، ولا يطالبُ ، ولا يضاربُ " [ مدارج السالكين (1/ 519 ) ] . فالَّذي يملأ الدُّنيا معاتبةً ومطالبةً ومضاربةً ، ولا يعترف بخطأ ، ولا يرجع عن زلل ، ولا يشكر ناصحًا ، بل يستَجمع أتباعَه ويهيِّج أشياعَه ، ويصوِّب سهامه إلى ناصحيه ، الَّذين - في زعمه -لم يفهموا قصدَه ولم يدركوا مرامَه ، وأنَّهم هضَموه حقَّه ، فيكثُر تَشغيبُه وتهويله ، ولا يعبأ بحرمات مرعيَّه ، ولا بآداب شرعيَّة ، وهذا كلُّه بسبب الغلوِّ في الاعتداد بالنَّفس الَّذي يُسدِل غشاوةً على قلب الانسان وبصره فيُحال بينه وبينَ سماع الحقِّ وقَبولِه والاذعان إليه ، وتسوء ظنونُه فتَضطرب أحكامُه ، وتتنافض أقوالهُ ، ويبتَعد ممَّن كانَ منه قريبًا ، ويقتربُ ممَّن كانَ عنه بعيدًا ، ويشتَدُّ في موطِن اللِّين ، ويلينُ في موطِن الشِّدَّة ، لا همَّ له سوى الانتصار وتحقيق الغَلبة ولو في عالم التَّوهم والافتراض . ولو تأمَّل في حاله وصنيعه لألفاه جارًّا لألوانٍ منَ المفاسد والشُّرور عليه وعلى غيره ، وقَد صدق ابنُ المبارك رحمه الله لــــمَّا عرَّف العُجْب : " أنْ تَرى أنَّ عندَك شيئًا ليس عندَ غيْرِك " ثمَّ قال : " لا أعلمُ في المصلِّين شيئًا شرًّا منَ العُجْب " [ السير (8/407) ]. إنَّ العلم النَّافع يروث صاحبَه الالتفات إلى عيوب نفسه ونقائصها ، حتَّى يتهاوى في عينه المنصب والجاه والمنزلة وجميع حظوظه النَّفسيَّة ، ولا يشهد إلاَّ فضلَ الله عليه ونعمته ، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الَّذي بلغ في العلم والعَمل مبلغًا عظيمًا ، نقل تلميذه البار ابنُ القيِّم في مدارج السالكين (1/520 ) عنه أنَّه كانَ يقول كثيرًا : " ما لي شيءٌ ، ولا منِّي شيءٌ ، ولا فيَّ شيءٌ ، كانَ كثيرًا يتمثَّل بهذَا البيت : أنا الــمُكدِّي وابنُ الــمكَدِّي /// وهكذَا كانَ أبـــي وجدِّي " والـــمكدِّي : هو الَّذي قلَّ خيره ، والله الهادى . المصدر : العدد التَّاسع والعشرون لمجلَّة الإصلاح |
الساعة الآن 02:21 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com