المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيرة الصحابية : رملة بنت أبي سفيان ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي


الماحى3
24-04-2023, 11:08 PM
الدرس 37/50 ، سيرة الصحابية : رملة بنت أبي سفيان ، لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي .
تفريغ : المهندس عبد العزيز كنج عثمان .
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي .
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علَّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السابع والثلاثين من دروس سيَر صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وصحابيّة اليوم السيدة رملة بنت أبي سفيان .
أبو سفيان زعيم قريش ، ناصَبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم العداءَ عشرين عاماً ، وابنته بضعةٌ منه ، مِن صُلبه ، آمنتْ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت في الإسلام ، ودخل معها زوجها ، وآمنت بالله ورسوله ، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة ، وكان إسلامها طعنةً في قلب أبي سفيان ، ماذا يقول لوجوه قريش ، وقد خرجت ابنته عن سلطانه ، وعن دينه ، ودين آبائه ، إنها حكمٌ بالغةٌ تجري في الحياة البشرية ، قال تعالى :

( سورة الروم )
لو أن القضية قضية بيئة ، أو قضية وراثة ، أو قضية محيط ، أو قضية ظروف وتفاعلات ، ما كان ينبغي أن تخرج رملة بنت أبي سفيان عن دين أبيها ، و أبوها زعيم قريش ، ومن أغنى أغنياء قريش ، ومن سادات قريش، في بيت العز ، وبيت المال ، وبيت الغنى .
لكن يجب أن تعلموا دائماً أيها الإخوة ، أن الإنسان مخيَّر ، وأن الإنسان إذا اختار شيئاً يلغي كل العوامل الخارجية ، ولأنه أكبر من كل الظروف المحيطة به ، إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره ، قلما تنقضه الأيام ، إن كان صادراً حقاً عن إرادةٍ وإيمان .
سيدنا إبراهيم في أية بيئة نشأ ؟ دعاة البيئة ، دعاة المحيط ، دعاة المورثات ، دعاة المؤثِّرات ، دعاة المعطيات ، هؤلاء الذين يؤَلِّهون هذه العوامل ، نردُّ عليهم فنقول : سيدنا إبراهيم في أية بيئة نشأ ؟ في بيئة تعبد الأصنام .
سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام في أية بيئة نشأ ؟ بلغت الجاهلية في مكة درجةً عاليةً جداً من الخطورة ، الربا ، الفواحش ، الزنا ، الخمور ، القهر ، الاستبداد ، الطبقية ، جاهلية ، جاهلية أولى .
فرملة بنت أبي سفيان إسلامها أيةٌ من آيات الله ، ودليلٌ على أن الإنسان مخيَّر ، وإسلامها حجةٌ على مَن يعتقد أن البيئة تؤثِّر أبلغ الأثر ، والبيئة لها تأثير لا شكّ فيه ، لكن ليس لها كل التأثير ، فما كان يخطر في بال أبي سفيان أنّ في وسع أحدٍ من قريش أن يخرج عن سلطانه ، فهو الزعيم الأوحد ، والشخصية الأولى ، والسيد المطاع ، ذو الحسب والنسب ، ذو القوة والسلطان ، وابنته بضع منه ، تخرج عن دين آبائه ، وهو سيد مكة المطاع، وزعيمها الذي تدين له بالولاء ، لكن ابنته رملة المكنَّاة بأم حبيبة قد بددت هذا الزعم ، وذلك حين كفرتْ بآلهة أبيها ، وآمنتْ هي وزوجها عبيد الله بن جحش بالله وحده لا شريك له وبرسوله ، ودخلا في الإسلام ، وانضما إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
حاول أبو سفيان بكل ما أوتي من سطوة وبأس ، ولم يدرِ أنّ المسلم كلما ضغط عليه ، ازداد تمسكاً بإسلامه ، وأنّ هذا الدين كلما أردت أن تقضي عليه فكأنَّك تصبُّ على النار الزيتَ ، والأذكياء يهادنون الدين ، والحمقى يواجهونه ، فإنْ واجهته ازداد قوة ، فالمسلم لا تجدي معه كلَّ الضغوط ، فلا سياط الجلادين اللاذعة ، ولا سبائك الذهب اللامعة ، تثنيه عن عزمه ، وتقوِّض إيمانه ، وهذا هو الإيمان.
قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم : ((يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم قد سألوك النصف، أن تكف عن شتم آلهتهم ، ويدَعوك وإلهك ، فقال : أي عم أَوَلاَ أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ؟ قال : وإلامَ تدعوهم ؟! قال : أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة يدين لهم بها العرب ، ويملكون بها العجم ، فقال أبو جهل مِن بين القوم : ما هي وأبيك لنُعطِينَّكها وعشرَ أمثالها ؟ قال : تقول لا إله إلا الله ، فنفروا ، وقالوا : سلنا غير هذه ، قال : لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها ، فغضبوا ، وقاموا من عنده غضابا ، وقالوا : والله لنشتمنّك وإلهك الذي يأمرك بهذا)) .
(أخرجه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السديّ)
فقضية الإسلام ليست خاضعة للمساومة ، ولا للمبادلة ، ولا للمهادنه ، قضية الإسلام قضية مبدأ ، وقضية مصير .
أحياناً ، في المؤتمرات ، ولقد مكثوا مرةً عشر دورات ، ولم تنجح هذه الدورات في المفاوضات ، للاتفاق على جدول الأعمال فقط ، عشر جولات انتهت بالفشل الذريع ، ولم يتفقوا على جدول الأعمال، يقولون : هذا الموضوع غير قابل للمناقشة ، وإيّاكم أن تطرحوه ، فإن طرحتموه معنى ذلك أنكم لا تريدون الصلح ، كذلك في حياة المسلم هناك قائمة موضوعات غير قابلة للمناقشة ، ولا يمكن أن تُعرَض على بساط البحث ، هذه مِنَ المسلَّمات ، قضية عقيدة ، قضية مبدأ ، قضية مصير .
حاول أبو سفيان بكل ما أوتي من قوةٍ ، ومن سطوةٍ ، ومن بأسٍ ، أن يردَّ ابنته وزوجها إلى دينه، ودين آبائه ، فلم يفلح .
والكافر أحياناً يتوهم بسذاجة أنّ فلانًا مِنَ الممكن أنْ نغريه بالمال ، وأنْ نغريه بالنساء ، هذا ظن الكافر ، وهو ظنٌ غبي ، بل هذه سذاجة محضة ، والمسلم لا يخضع ، ولا يتأثر لا بالضغوط ، ولا بالإغراءات ، لأنه عرف الله عزَّ وجل .
قال بعضهم : إن الإيمان الذي رسخ في قلب ابنة أبي سفيان كان أعمق مِن أن تقتلعه أعاصيرُ أبي سفيان ، وأثبتَ من أن يزعزعه غضبه .
قالت أم سعد بن أبي وقاص لابنها : يا سعدُ إمّا أن تكفر بمحمد ، وإلا سأدع الطعام حتى أموت ، فقال : يا أمِّي، لو أن لكِ مائة نفسٍ ، فخرجت واحدةً واحدةً لمَا كفرتُ بمحمد ، فكلِي إن شئتِ ، أو لا تأكلِي .
سيدنا عبد الله بن عمر فيما تروي الكتب أغرى بدوياً راعياً ، على أن يبيعه شاة ، ويعطيه ثمنَهَا ، فقال له البدوي : ليست لي ، فقال له : قل لصاحبها ماتت ، قال له : ليست لي ، قال له : خذ ثمنها ، قال له: ليست لي ، قال : واللهِ إنني لفي أشِّد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلتُ له ضاعت ، أو أكَلها الذئب ، لصدقني ، فإني عنده صادقٌ أمين ، ولكن أين الله ؟.
قرأت رواية حديثه لهذه القصة ، أنّ هذا الراعي ظلّ يقول : ولكنْ أين الله ؟ أين الله ؟ حتى أُغْمِي عليه .
أين الله ؟ هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، هؤلاء الذين يغشّون الناس ، ويتجاوزون الحدود ، ويعتدُون على أعراض الناس ، واللهِ ما عرفوا ربَّهم ، ، ولو عرفوا الله عزَّ وجل لتهيَّبوا أن يعصوه في أدق المخالفات وأدناها .
أبو سفيان ركبه الهمُّ بسبب إسلام رملة ، فما كان يعرف بأي وجهٍ يقابل قريشاً ، سيقولون له : عليك بابنتك التي من صلبك ، فقد أسلمتْ ، أين أنت ؟ أغافلٌ عنها ؟ كيف أقنعوها ؟! أين قوتك ؟.
لما وجدت قريشٌ أن أبا سفيان ساخطٌ على رملة وزوجها ، اجترأتْ عليها ، وطفقتْ تضيِّق عليهما الخناق، وجعلتْ ترهقهما أشدَّ الإرهاق ، حتى باتا لا يطيقان الحياة بمكة .
ولقد ضغطت قريشٌ على المسلمين بشكلٍ لا يوصف ، ونحن نشأنا في بلاد المسلمين ، والحمد لله ، ونحضر مجالس العلم ، ولا نشعر بهذا الضغط ، لكن الضغط الذي مارستْه قريشٌ كان شديدًا مؤلِمًا ، تعذيب حتى الموت ، ومقاطعة حتى الجوع ، ولما أذِنَ النبيّ عليه الصلاة والسلام للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة ، كانت رملة بنت أبي سفيان وطفلتها الصغيرة حبيبة ، وزوجها عبيد الله بن جحش في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم ، الفارِّين إلى حِمى النجاشي بإيمانهم ، إذًا هاجرت رملة بنت أبي سفيان ، وطفلتها الصغيرة حبيبة ، وزوجها عبيد الله إلى الحبشة ، فراراً بدينهما .
وبالمناسبة ، قد يسافر الإنسان فراراً بدينه ، أو طلباً للعلم ، أو طلباً للرزق ، وهذا سفرٌ مشروع، فإمّا أن تفرَّ بدينك ، وإمّا أن تطلب العلم بهذا السفر ، وإمّا أن تطلب الرزق الذي انقطع في بلدك .
لكن أبا سفيان بن حرب ومن معه من زعماء قريش عزّ عليهم أن يفلت من بين أيديهم أُولئك النفر من المسلمين ، وأن يذوقوا طعم الراحة في بلاد الحبشة ، فأرسلوا رسلَهم إلى النجاشي ، يحرِّضونه عليهم ، ويطلبون منه ، أن يسلِّمهم إليهم .
الإنسان هو الإنسان ، سلمونا فلانًا وفلانًا ، دائماً مطاردة ، هذا يجب أن تسلِّمونا إياه ، وهذا ما فعله أبو سفيان وزعماء قريش ، لقد أرسلوا إلى النجاشي رسلاً معهم الهدايا الثمينة ، للبطارقة حتى يشكلوا رأيًا عامًّا ضاغِطًا على النجاشي ، وكان عمرو بن العاص وهو أحد دُهاة العرب رئيسَ وفدِ قريش إلى النجاشي ، كي يقنع النجاشي بتسليم هؤلاء الذين هاجروا إلى الحبشة ، وفرُّوا بدينهم ، ورأوا في بلاد النجاشي الراحة والأمان .
ومن دهاء عمرو بن العاص أنه أراد أن يثير حفيظة النجاشي ، وهو النصراني ، أثاره بموضوعٍ خطير ، فقدْ ذكَّره أن هؤلاء الذين لجؤوا إلى بلاده يقولون في المسيح وأُمِّه مريم قولاً يسوءه ، فبعث النجاشي إلى زعماء المهاجرين ، وسألهم عن حقيقة دينهم ، والنص معروف عندكم أنا أُلقيه عليكم كثيراً ، قال له :
فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ .... قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ .... قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ …… أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي ، وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ ... *
(رواه أحمد)
إنه كلام بليغ ، فلما اقتنع النجاشي بهذا الكلام ذكروه أنهم يقولون في عيسى بن مريم ، قولاً يسوءُه ، لا يعدونه ابنَ الله ، هو نبيٌ من الأنبياء ، طلب النجاشي إليهم ، أن يسمعوه شيئاً من القرآن الكريم الذي ينزل على قلب نبيِّهم ، فلما أخبروه بحقيقة الإسلام ، وتلوا عليه بعضاً من آيات القرآن ، بكى النجاشي ، حتى اخضلَّت لحيته، وقال لهم : مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ ، ثم أعلن النجاشي إيمانه بالله وحده لا شريك له ، وتصديقه لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسلم .
والنجاشي ملِك ، لذلك لما جاءت رسل النجاشي ، أراد النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يخدمهم بنفسه ، إكراماً له ، ولما توفِّي النجاشي صلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ، على أنه مسلم، وفي بعض الكتب يعدُّ من الصحابة ، لكن لم يلتقِ بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل التقى به عن بُعْد ، وأسلم وغدا المهاجرون بعد ذلك في بحبوحة ، وفي رعاية ، وفي طُمأنينة ، وتحت ظل النجاشي .
حسبت أم حبيبة بعد ذلك أنّ الأيام صفت لها بعد طول عبوس ، وأن رحلتها الشاقة في طريق الآلام قد انتهتْ إلى واحة الآمان ، إذ لم تكن تعلم ما خبَّأتها لها المقادير ، فيما سيحدث لها في حياتها من أخطر الأحداث.
شاء الله تبارك وتعالى ، ولحكمةٍ بالغةٍ أرادها أن يمتحن أمَّ حبيبة امتحاناً قاسياً ، تطيش فيه عقول الرجال .
قبل أن نتابع القصة ، ماذا يعني أن يؤمن النجاشي ؟ معنى ذلك أنّ الإيمان مكلَّف به الناس جميع الناس ، والملوك كذلك ، والملِك إذا آمن وأسلم ، فأَنْعِمْ وأكرم به من ملك ، يؤيِّده الله ، ويثبِّت ملكه ، ويزيد قوةً ومضاءً ، والإنسان كلما اتسعت سلطته يزداد عمله الصالح .
أضرب لكم مثلاً بسيطًا ؛ معلم في صف يضمُّ ثلاثين طالبًا ، أقصى ما عنده أنه يوجِّه هؤلاء الطلاب توجيهاً صحيحاً ، لكن المدير تحت سلطته سبعمائة وثمانين طالبًا ، فإذا كان مديرًا حازمًا أخلاقيًّا فإنّه ينتقى مدرسين ممتازين ، لضبطِ المدرسة ، ضبطِ سلوك مَن فيها ، أمّا مدير التربية فعنده محافظة بأكملها ، ووزير التربية أعلى مِن ذلك ، فكلما عَلَت السلطة ازدادَ العملُ الصالح ، فأنت بإمكانك أن تعمل بقدر سلطتك ، فحينما يكون الإنسان في مرتبة عالية فقد أتيح له أنْ يعمل من الأعمال الصالحة ما لا حدود له .
إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن *
(مختصر تفسير ابن كثير ، للصابوني ، سورة الإسراء ، الآية 80-81)
فأحيانًا قرار واحد يسبق ألف داعية ، لأن الدعاة إلى الله ، إلى أن يصل إليهم طالب العلم تواجهه آلاف المطبَّات في الطريق ، الطرقات وما فيها من فساد ، دور اللهو ، أجهزة اللهو ، المجلات ، الكتب ، ألف ألف مطب ، وألف حاجز ، يعترض وصول طالب العلم إلى المسجد .
إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن .
(مختصر تفسير ابن كثير ، للصابوني ، سورة الإسراء ، الآية 80-81)
فمن الممكن أنّ الملك إذا نوَّر اللهُ عزَّ وجل قلبَه أنْ يعملَ أعمالاً لا تأتي بها الجبال الراسيات .
وهنا أمرٌ يجب أن تعرفوه ؛ إنّ الإنسان إذا صعد إلى جبل قاسيون مثلاً ، فكلما ارتفع أكثر اتَّسعتْ دائرةُ الرؤية ، وهذا الكلام صحيح ، والإنسان كلما علت حظوظه بأنْ ازداد ماله ، أو صار مسؤولاً أعلى ، ازدادت سلطته ، كان مديرًا عامًّا ، أصبح وزيرًا ، كان رئيس دائرة ، صار معاون وزير ، فكلما ازدادت سلطته ، ازدادت مسؤوليته ، وازدادت فرص عمله الصالح .
وبالمناسبة ، هناك شيئان يتوازنان ، كلما ازداد حظُّك من الدنيا ؛ حظ العلم ، أو حظ المال ، أو حظ السلطان ، أو الذكاء ، أو الوسامة ، أو الغنى ، كلما ازدادت حظوظك في الدنيا ، ازداد معها شيئان ، مسؤوليتك ، وفرص العمل الصالح التي تتاح لك ، المسؤولية ازدادت ، وفرص العمل الصالح ازدادت ، فإذا ارتقى الإنسان في مستواه الوظيفي ، أو السلطوي ، أو المالي ، فقد صار متاحًا له أن يعمل أعمالاً صالحة أكبر ممَّا كان عليه من قَبلُ ، وإذا ضيَّع هذه الفرصة ، صارت مسؤوليته أمام الله كبيرةً عسيرة ، لذلك صدقوا حينما قالوا : فلان مسؤول كبير ، بالمعنى اللغوي ، أي مسؤول مسؤولية كبيرة ، بهذا المعنى بالضبط .
فالنجاشي ، آمن بالله ورسوله ، وازداد قوةً ، وازداد حكمةً ، وازداد قرباً من الله عزَّ وجل.
والآن عودٌ على بدْءٍ إلى امتحان أم حبيبة القاسي ، لقد كان هذا الامتحان تطيش له عقول الرجال ، ذوي الأحلام ، وتتضعضع أمامه أفهامُ ذوي الأفهام ، وهذا الابتلاء ربما أخرجها من عقلانيتها ، فما هذا الابتلاء ؟ ذات ليلةٍ ، أَوَتْ أم حبيبة إلى مضجعها ، فرأت فيما يراه النائم أنّ زوجها عبيد الله يتخبَّط في بحرٍ لُجيٍّ ، غشيته ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، وهو في أسوأ حال ، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو تُرى له ، فرأت أم حبيبة في المنام أن زوجها يتخبَّط في بحرٍ لُجيٍّ ، غشيته ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، وهو في أسوأ حال ، فهبَّتْ من نومها مذعورةً مضطربة ، ولم تشأ أن تذكر له أو لأحدٍ غيره شيئاً مما رأت ، لأن الرؤيا مزعجة جداً ، لكن ما لبثت أن تحققت رؤياها ، فزوجها ، المؤمن ، المهاجر ، الذي صحبها إلى الحبشة ، فلم ينقضِ يوم تلك الليلة المشؤومة ، حتى كان عبيد الله بن جحشٍ قد ارتد عن دينه وتنصَّر ، ثم أكبَّ على حانات الخمَّارين ، يعاقر الخمرة أمَّ الخبائث ، فلا يرتوي منها ، ولا يشبع .
تصوَّرْ هذه النكسة ، صحابي ، مهاجر ، زوج رملة ، أم حبيبة ، فجأةً يرتدُّ عن دينه ، ويتنصَّر ، ويعاقر الخمرة ، أم الخبائث ، فلا يشبع منها ، وقد خيَّرها بين أمرين أحلاهما مرُّ ؛ إما أن أطلقك ، وإما أن تتنصَّري .
هذه مصيبة ، أبوها مشرك ، فهل تعود إلى أبيها ذليلةً ؟ وزوجها نصراني ، وهي في بلاد الحبشة غريبة ، هذه القصة تعطيكم الدليل العظيم على حكمة النبي في زواجه مِن أمّ حبيبة .
فوجدت أمُّ حبيبة نفسها فجأةً بين ثلاث : إما أن تستجيب لزوجها ، الذي جعل يلحُّ عليها في دعوته إليها إلى التنصُّر ، والعياذ بالله ، وتبوء بخزي الدنيا ، وعذاب الآخرة ، وهذا أمرٌ لا تفعله ، ولو مُشِّط لحمُها عن عظمها بأمشاطٍ من حديد ، هذا مستحيل ، هذا أول احتمال ، وقد ألغيناه .
وإمّا أن تعود إلى بيت أبيها في مكة ، وهو ما زال قلعةً للشرك ، فتعيش فيه مقهورةً ، مغلوبةً ، ذليلةً ، وّإما أن تبقى في بلاد الحبشة وحيدةً شريدةً لا أهل لها ، ولا وطن ، ولا معين ، فآثرت ما فيه رضاء الله عزَّ وجل ، وأزمعت على البقاء في الحبشة ، حتى يأتي اللهُ بفرجٍ من عنده ، مستحيل أن تعود إلى أبيها المشرك ، فيقهرها ، ويذلُّها ، ومستحيل أن تقبل عَرْضَ زوجها ، فترتدّ عن دينها ، فلم يبق لها إلا ما يرضي الله ورسوله ؛ أن تبقى في الحبشة وحيدةً ، شريدةً ، لا معين لها ، ولا رجل .
لم يَطُل انتظارُ أمِّ حبيبة كثيراً ، فما إن انقضت عدَّتُها من زوجها الذي لم يعش بعد تنصره إلا قليلاً حتى جاءها الفرَجُ .
خدم رجلٌ والدته اثنتي عشرة سنة ، وفي أحد الأيام ضاقت نفسه بخدمته لها ، وغضب ، وأسمعها كلماتٍ قاسيةً جداً ، وقال لها : لستُ أنا ابنك الوحيد ، اذهبي إلى غيري ، اخرُجي من بيتي ، فبكت ، وقهرها بهذه الكلمة ، فاستدعتْ أحدَ أبنائها ، وأخذها معه إلى البيت ، وما هي إلا أيام حتى توفّاها الله عزَّ وجل ، فهَدَرَ عملَ اثنتي عشرة سنة ، وهذا بعد أشهر قليلة من ارتداده عن الإسلام مات .
لقد خُتِم عملُه بالكفر ، ومعاقرة الخمرة ، لذلك فعَنْ أُمَّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ فِي دُعَائِهِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ قَالَ نَعَمْ مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَزَاغَهُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُعَلِّمُنِي دَعْوَةً أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي قَالَ بَلَى قُولِي اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنَا *
( رواه أحمد)
لقد جاءها السعد يرفرف بأجنحةٍ خضراء فوق بيتها المحزون ، على غير ميعاد ، في ذات ضحىً طَرَق بابَها طارقٌ ، فلما فتحته ، فوجِئت بأبرهة ، مَن هي أبرهة ؟ " اسم مؤنث بالطبع " ؟ وهي وصيفة النجاشي ، ملك الحبشة ، فحيَّتها بأدبٍ وبِشْر ، واستأذنتْ بالدخول عليها ، وقالت : إن الملك ، يحيِّيكِ ، ويقول لك : إن محمداً رسول الله ، قد خطبك لنفسه .
هل تعرفون لماذا يتزوج النبي عليه الصلاة والسلام مثل هذه المرأة ؟ لقد تنصَّر زوجها ، وعاقر الخمرة، وأبوها ، أبو سفيان ، بيته قلعةٌ من قلاع الشرك ، وهي في الحبشة طريدةٌ ، شريدة ، لا معين لها ، فالنبي عليه الصلاة والسلام خطبها لنفسه ، عن طريق الملك النجاشي ، وقد بعث إليه كتاباً وكَّله فيه أن يعقد له عليكِ ، فوكِّلي عندك من تشائين ، هذه هي الوكالة في الزواج ....
.... النبي عليه الصلاة والسلام وكَّل النجاشي أن يعقد على أمِّ حبيبة وطلبتْ أبْرهةُ وصيفةُ الملك مِن أن حبيبة أنْ توكِّل عنها وكيلاً في عقد الزواج ، فاستطارت أمُّ حبيبة فرحاً ، وهتفت : بشَّركِ اللهُ بالخير ، بشَّرك الله بالخير ، وطفقت تخلع ما عليها من الحلي ، فنزعت سواريها ، وأعطتهما لأبرهة المبشرة ، ثم ألحقتهما بخلخالها ، ثم أتبعت ذلك بقرطيها ، وخواتهما ، ولم تُبْقِ شيئًا ، هذه بشارة عظيمة ؟ إمرأةٌ تنصّر زوجها ، وعاقر الخمرة ، وأبوها مشرك ، وهي غريبة ، تصبح فجأةً زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ، لقد أَعْطَتْ كلَّ شيءٍ تملكه من الحلي ؛ القرطين ، والأساور ، والخلخال ، قدَّمتها لهذه الوصيفة ، إكراماً لها .
ولو كانت تملك كنوز الدنيا كلها لأعطتها لها في تلك اللحظة ، ثم قالت لها : لقد وكَّلت عني خالد بن سعيد بن العاص ، فهو أقرب الناس إلي ، وفي قصر النجاشي الرابض على رابية خضراء ، وعلى تلّة خضراء ، مطلةٍ على روضةٍ من رياض الحبشة النضرة ، وفي أحد أبهائه الفسيحة ، المزدانة بالنقوش الزاهية ، المضاءة بالسُرج النحاسية الوضاءة ، المفروشة بفاخر الرياش اجتمع وجوهُ الصحابة ، المقيمين في الحبشة ، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وغيرهم ، ليشهدوا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان .
الكلام لكم أيها الإخوة ، قد تضيق الدنيا ، وتضيق ، والطرق كلها مغلقة ، فاصبر ، فقد تأتي الدنيا وهي راغمة ، ويأتي الفرج بعد اليأس ، ويخلق اللهُ جلَّ جلاله مِنَ الضعف قوة ، ومن الضيق فرجاً ، ومن الفقر غنىً ، ومن الذل عزاً ،ف كن مع الله ولا تبالِ ، فبطولتك أن تكون مع الله في طاعته ، وعلى الله الباقي .
فلما اكتمل الجمع ، تصدَّر النجاشي المجلس ، وخطبهم ، فقال : أحمد الله ، القدوس ، المؤمن، الجبَّار ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنه هو الذي بشَّر به عيسى بن مريم ، أما بعد ..
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب مني أن أزوِّجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبته إلى ما طلب ، وأمهرتها نيابةً عنه أربعمائة دينارٍ ذهباً .. وأدّى النجاشي عنه المهر على سنة الله ورسوله .
ثم سكب الدنانير بين يدي خالد بن سعيد بن العاص ، وهنا قام خالد بن سعيدٍ وقال :
الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأستغفره ، وأتوب إليه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بدِين الهدى والحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره الكافرون ، أما بعد .. فقد أجبتُ - أي الإيجاب والقبول - طلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجته موكِّلتي ، أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فبارك الله لرسول الله بزوجته ، وهنيئاً لأم حبيبة بما كتب اللهُ لها من الخير .. ثم حمل المال ، وهمَّ أن يمضي به إليها ، فقام أصحابه بقيامه ، وهمُّوا بالانصراف أيضاً ، وهنا قال لهم النجاشي : اجلسوا ، فإن سنة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يطعموا الطعام ، ودعا لهم بطعامٍ ، فأكل القوم ، ثم انفضوا .
قالت أم حبيبة : فلما وصل المالُ إليَّ ، أرسلتُ إلى أبرهة التي بشَّرَتْني خمسين مثقالاً من الذهب ، وقلت لها : إني كنت أعطيتكِ ما أعطيت حينما بشَّرتني ، ولم يكن عندي يومئذٍ مال ، فما هو إلا قليلٌ حتى جاءت أبرهة إليها ، وردَّت الذهبَ ، وأخرجتْ حُقًّا فيه الحَلْيُ الذي أعطيتها إيَّاه ، فردّته إليّ أيضاً ، وقالت : إن الملك قد عزم عليّ ، ألا آخذ منك شيئاً ، المبلغ أرجعته ، وقد أمر نساءه أن يبعثنً لك بكل ما عندهن من الطيب ، فلما كان الغد ، جاءتني بورسٍ ، وعودٍ وعنبرٍ .
أنتم الآن استغربتم مِن جارية مكلفة أن توصل خبرًا ، فتأخذ كل هذا العطاء ، الحلي ، والخلخال ، والأساور ، وخمسين مثقال ذهب !!
ثم قالت الوصيفة أبرهةُ : إن لي عندك حاجة ؟ فقلت : وما هي ؟ فقالت : لقد أسلمتُ ، واتبعتُ دين محمد، فاقرئي على النبي مني السلام ، وأعلميه ، أني آمنت بالله ورسوله ، ولا تنسيْ ذلك .
أرأيتم الإحسان !! الإنسان أحياناً يملك قلب إنسان بالمال ، بالإكرام ، لا تظن أنّ الناس تنقصهم معلومات، وفلسفات ، وكلام منمَّق ، إنما ينقصهم إحسان ، فإنْ أحسنت فتحت قلوب الناس بإحسانك ، قبل أن تفتح عقولهم ببيانك .
يا أيها الإخوة الكرام ... أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت سورة براءة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ *
المداراة كما تعلمون بذْلُ الدنيا من أجل الدين ، والمداهنة بذلُ الدين من أجل الدنيا ، فإذا كنتَ مِمَّن يطمح أن يصير داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، وممَّن يطمح أن يهتدي الناس على يديه ، أو بسببه ، فليس أمامك إلا طريق واحد ، وهذا الطريق أنْ تحسن إلى الناس ، لأن الناس كما تعلمون أيها الإخوة هل يتعلَّمون بعيونهم، أم بآذانهم ؟ بعيونهم ، ثم بآذانهم ، فإذا التقى الإنسانُ بشخص ، فأول لقاء لا يعرفه ، فينظر إلى طوله ، ولونه ، وأناقته ، ونظافته ، وثيابه ، وإلى ألوان ثيابه ، وإلى الانسجام بين الألوان ، وإلى طريقة مشيته ، وطريقة جِلسته ، وحركاته ، ونظراته ، فيتفحصه ، فأنت التقيتُ مع شخص لا تعرفه ، زرت أخاك في العيد ، وقال لك : انتظرْني دقيقة ، ووجدتَ عنده ضيوفًا ، وقال لك : أنا مشغول ، فاجلِسْ معه دقائق ، تأمله ، تأمَّل شكله ، طوله ، لونه ، بذلته ، حذاءه ، قميصه ، ألوان ثيابه ، طريقة جلسته ، فإذا تكلَّم نسيتَ شكله ، وجدت فيه علمًا ، وفهمًا ، ودقةً في التعبير ، أو هو ذو كلام فارغ ، وحديثُه خرافات ، أو عنده آراء غير صحيحة ، أو تصورات مضحكة ، فإن تكلّم ، إمّا أن يرقى ، وإمّا أن يسقط ، فإن تكلم نسيت شكله ، فإذا سافرت معه ، وعاملته بالدرهم والدينار ، نسيتَ كلامه ، الشكل يُسقِط ، والكلام يُسقِط ، ولا تبقى إلا المعاملة ، والمعاملة هي الأساس ، فالإنسان إذا ضاقت به الأمور ، فعليه بالدعاء ، وعليه بالالتجاء إلى الله ، وعليه بالصبر ، والصبر مفتاح الفرج ، وربنا عزَّ وجل يمتحنك ، ويضعك في ظروف صعبة ، والطرق كلّها مغلّقة ، وفيما يبدُو لك أن الأمر صار فوق التحمل فاصْبِرْ ، فإنّ الله يحبُّ العبد الصابر ، قال عزوجل :

هذه الآية تؤثِّر في كثيراً :

( سورة ص )
والصبر متى يكون ؟ عند الصدمة الأولى ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى
(متفق عليه)
كلّ إنسان إنْ لجَّ وكفر سوف يصبر مقهوراً ، يقول لك : ما بعد الصبر ، إلا المجرفة والقبر ، أي إن لم تصبر فماذا تفعل ؟ نحن عبيدٌ لله عزَّ وجل ، فبين الصابر وغير الصابر مرتبةُ الرضا ، وهي عند الصدمة الأولى ، لكن بعد حين تصبر ، لكنك فقدتَ الأجر ، لذلك فالمؤمن إذا جاءه ما يكرهه ، فأوّلُ كلمة يقولها : الحمد لله على كل حال ، فعوِّد لسانك على الحمد ، يا ربِّ لك الحمد على كل حال .
والنبي عليه الصلاة والسلام كان قدوة لنا أيها الإخوة ، فكيف جعله الله قدوة ؟ لأنه أولاً ، لو جعله غنياً فقط، ونصح الفقراء بالصبر ، فهذه النصيحة غير مقبولة ، ماذا يقولون له ؟ لم تذق الفقرَ يا سيدي ، هذا كلام نظري، لكنه ذاق الفقر المدقع ، قال :

" أُوذيتُ وما أُوذي أحدٌ مثلي ، وخفت ، وما خاف أحدٌ مثلي ، ومضى علي ثلاثون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال " .
ذاق الفقر ، وذاق الغنى ، فلما ذاق الفقر ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ قَالَتْ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا قَالَ مَا هُوَ قُلْتُ حَيْسٌ قَالَ هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَاِئِمًا *
(رواه مسلم)
أنا أستحلفكم بالله عزَّ وجل ، هل منكم رجلٌ إذا دخل بيته لم يجد شيئاً يأكله إطلاقاً ؟ مستحيل ، فليس مِن بيت إلاّ وفيه زيتون ، جبن ، لبن مصفى ، كأس من الشاي ، معكرونة ، برغل ، أرز .
يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، نبي ، رسول ، سيد الخلق لا يجد شيًا ، يقول بعدئذٍ : فَإِنِّي صَائِمٌ.
الآن المسلم ، إذا تأخّر الأكل به الأكل ، يخبط خبط عشواء ، ويسبُّ ، ويقيم ، ويُقعِد ، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد شيئاً يأكله ، ويقول : فَإِنِّي صَائِمٌ .
دخل عليه عدي بن حاتم ، قال : فقذف إليَّ وسادةً من أدمٍ ، محشوةً ليفاً ، قال :" اجلسْ عليها ، قلت : بل أنت، قال : بل أنت ، قال : فجلست عليها ، وجلس رسول الله على الأرض " .
ماذا يوجد في بيته ؟ هل كان عنده طقم فاخر ، وثريات تشيكية ، وسجاد صيني ؟ لا ، بل وسادة واحدة ، من أدمٍ محشوةٍ ليفاً ، دفعها إلى عدي بن حاتم ، قال : " اجلسْ عليها ، قلت : بل أنت ، قال : بل أنت ، فجلست عليها، وجلس هو على الأرض ".
دخل عليه أعرابيٌّ يومًا فلم يعرفه ، وهو صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه ، وصار يتأملهم ملياً ، ثم قال : أيُّكم محمّد ؟
أين كان جالسًا ؟ كان بين أصحابه ، فذاق الفقر ، ونصحنا بالصبر ، فلما ذاق الغنى ، قيل له : " لمن هذا الوادي يا محمد ؟ وادٍ من غنم ، قال : هو لكَّ ، قال : أتهزأ بي ؟‍! قال : لا والله ، قال : أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر " .
لو أن الله عزَّ وجل جعل كل حياته انتصارات ، وعزًّا ومجدًا ، ثم نصح المسلمين أنْ يصبروا إذا ذُلُّوا ، أو قُهِروا ، قالوا له : ما ذقتَ الذل أنت يا سيدي ، فقد ذاق النبيُّ طعمَ القهر ، ففي الطائف مشى على قدميه ثمانين كيلو مترًا ، كذَّبوه ، وسخروا منه ، وضربوه ، فذاق طعم القهر .
وذاق طعم النصر في مكة ، وقد أحاط به عشرةُ آلاف سيف متوهِّج ، بعد أنْ أُخرِج منها شريداً ، طريداً ، خائفاً ، مهدوراً دمه ، فعاد إليها سيداً ، فاتحاً ، منتصراً ، ومصير هؤلاء جميعاً منوطٌ بكلمةٍ مِن فمه ، لو قال : اقتلوهم لقتلوهم ، لكنه ماذا قال ؟ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : (الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم قال: (ماذا تظنون يا معشر قريش) قالوا: خيرا ، أخ كريم ، ابن أخ كريم وقد قدرت ؛ قال: (وأنا أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم" فقال عمر رضي الله عنه: ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة: اليوم ننتقم منكم ونفعل ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال استحييت من قولي *
(ذكره القرطبي في تفسيره للآية 91-92 من سورة يوسف)
ذاق موت الولد ، والولد غالٍ جدًّا ، مات ابنه إبراهيم فبكى عليه ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ *
(متفق عليه)
ذاق الهجرة ، وهي اقتلاع من الجذور ، أرأيتَ إلى رجلٍ يسكن بيتًا مرتِّبًا ، وله محله ، ومصيفه ، وسيارته ، ثم غادرها خلال خمس دقائق ، أين ؟ إلى اليمن ، فقد يقعد على الرصيف ، فهذه هي الهجرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ، لولا أنه جرت عليه كلُّ خصائص البشر لمَا كان سيِّد البشر ، لقد كذّبوه ، واتّهموه ظلماً بأنه مجنون ، وساحر ، وكاهن ، وضيِّقوا عليه ، وأخرجوه ، وتآمروا على قتله ، وذاق الفقر ، وذاق الغنى ، وذاق النصر ، وذاق الهزيمة ، لقد ذاق كلُّ هذا .. لهذا قال تعالى :

( سورة الأحزاب )
فاعتبِروا يا أولي الألباب .
والحمد لله رب العالمين
***


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية