المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مداراة الأعداء أسلوب نبوي غُفل عنه


عبد الغني رضا
03-11-2012, 02:10 AM
حاجة الناس عامة وأتباع الرسل خاصة إلى المداراة لا تدانيها حاجة، فهي من أخلاق المؤمنين الصالحين، ومن أقوى أسباب الألفة بين المسلمين، وأنجح وسيلة لدفع شر أعداء الملة والدين.
فالمرء مطلوب منه مداراة الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
الدعوة إلى الله - عز وجل - وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، لذا لا بد لأتباع الرسل من سلوك سبيلهم، واقتفاء نهجهم في الدعوة، فإذا احتاج الرسل والأنبياء إلى سلوك سبيل المداراة مع أعدائهم فمن باب أوْلى، وبالأحرى أتباعهم، فها هو شعيب - عليه السلام - يداري ويلاطف قومه قائلاً: ...يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [هود: 48 - 68].
وإبراهيم أبو الأنبياء - عليه السلام - عندما قال له أبوه: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّاً [مريم: 64]، قال: .. سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّاً [مريم: 74].
وقال الله - عز وجل - موصياً موسى وهارون - عليهما السلام - عندما أرسلهما إلى الطاغية فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44].
وعلى هذا المنهاج سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام والسلف الصالح، فدفعوا بذلك كثيراً من الشرور، ونالوا مقصودهم بأقل مجهود، وفازوا برضى الله - عز وجل - وحازوا ثوابه، وكُفُوا مؤونة أعدائهم، واتقوا مكرهم، وتخلصوا من لَجاجهم: ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 521]، وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 43 - 53].
فما للخَلَف عن الصراط ناكبون، ولمنهج رسولهم وسلفهم مجانبون؟!
وبعد: فهذا بحث عن المداراة: عن معناها ودليلها، وعن الفرق بينها وبين المداهنة، وعمن تجب مداراتهم، وعن أهميتها وحاجة الدعاة إليها في هذا العصر أكثر من ذي قبـــل، وما إلى ذلك.

• تعريف المداراة:
قال ابن منظور في لسان العرب: المدارأة في حسن الخُلُق والمعاشرة؛ فإن ابن الأحمر يقــول فيــه: إنه يُهمـَـز ولا يهمز يقال: دارأته مدارأة وداريته إذا اتقيته ولاينته[1].
قال ابن بطال: المداراة خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ لهم في القول. وقال ابن حجر: الدفع برفق[2].

• أدلة مشروعيتها:
ـ من الكتاب:
قوله - تعالى -ـ: ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 521].
وقوله: وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 51].
وقوله على لسان مؤمن آل فرعون: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 82].
وقوله: لا يَتَّخِذِ الْـمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً[آل عمران: 82].
وقوله: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [النحل: 601].
ـ من السنة:
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا نكشِّر في وجوه قوم وإنَّ قلوبنا لتلعنهم»[3].
وعن السائب - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعلوا يثنون عليَّ ويذكرونني[4]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلمكم به»، قلت: صدق ـ بأبي وأمي ـ كنت شريكي، كنــت لا تداري ولا تماري[5].
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مداراة الناس صدقة»[6].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[7].
ـ من الآثار:
أما الآثار التي وردت في فضل المداراة وحاجة الناس إليها مع الأعداء والأصدقاء فكثيرة، ولكــن نذكــر منهــا ما تيسر[8]:
قال أبو الدرداء لأم الدرداء - رضي الله عنهما - ـ: «إذا غضبتُ فرضِّني، وإذا غضبتِ رضَّيتك، فإذا لم نكن هكــذا ما أسرع ما نفترق».
لو سلك الأزواج هذا السلوك لما افترق زوجان، ولتماسكت الأسر، وحلَّ الوئام مكان الخصام.
وقال معاوية - رضي الله عنه - : «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خلّيتها، وإن خلَّوْا مددتها».
وقال الحسن البصري - رحمه الله - : «كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كله».
وقال محمد بن الحنفية - رحمه الله - : «ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل اللهُ له فرجاً»، أو قال: «مخرجاً».
وقال الشافعي - رحمه الله - :
لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ *** أرحت نفسيَ من همِّ العداواتِ
إني أحيِّي عـدوي عند رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحيــاتِ
وأُظهِرُ البِشْرَ للإنسان أُبغضه *** كأنما قد حشا قلبي محبــاتِ
الناس داء، وداء الناس قربُهُمُ *** وفي اعتزالِهُمُ قطعُ المـوداتِ
وقال ابن حبان - رحمه الله - : «من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يُدرك، ولكن يقصد العــاقــل رضــا مــن لا يجد من معاشرته بداً، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها، ما لم يكن إثماً؛ فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من دارى فلم يسلم، فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟! ».
وقال الخطابي - رحمه الله - :
ما دمتَ حيـاً فدارِ الناسَ كلَّهـُمُ *** فإنما أنت في دارِ المـــداراةِ
من يَدْرِ دارى ومن لم يَدْرِ سوف يُرى *** عمَّا قليلٍ نديماً للندامــــاتِ
وقال ابن بطال المالكي - رحمه الله - : (المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي من أقوى أسباب الألفة بينهم، فإن قال بعضهم: إن المداراة هي المداهنة، فهذا غلط؛ لأن المداراة مندوبٌ إليها، والمداهنة محرَّمة).
وقال الماوردي في «أدب الدنيا والدين»[9]: (إن الإنسان إن كان مأموراً بتألُّف الأعداء، ومندوباً إلــى مقاربتهــم، فــإنه لا ينبغي له أن يكون لهم راكناً، وبهم واثقاً، بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرُّز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبــعاً لا يستحــيل، وجِبِــلَّة لا تزول، وإنما يستكفي[10] ويستدفع بها أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفيد به إنضاجها، وإن كانت محرقة متأججة في يابس الحطب لا يقربها إلا تالف، ولا يدنو منها إلا هالك).
وقال بعض العلماء: «رأس المداراة ترك المماراة».
وقال أبو الطيب:
ومِنْ نَكَدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بُدُّ
وقد قيل: «اتسعت دار من يداري، وضاقت أسباب من يماري».

• بين المداراة والمداهنة:
المداراة مندوبة مع الناس، سيما مع الأعداء، ومن يُخشى شره أو ضُره، والمداهنة محرمة منهي عنها؛ فما الفرق بينهما؟
الفرق الأساس بينهما أن المداهنة تكون على حساب الدين، والمداراة تكون على أمر دنيوي، فالمداهنة مرادفة للنفاق.
قال ابن بطال المالكي[11]: (والفرق أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لاسيما إذا احتيج إلى تأليفه ونحو ذلك).
وقال ابن القيم - رحمه الله - : (المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه؛ فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق)[12].

• بين المداراة ـ التقيَّة ـ عند أهل السنة، والتقيَّة عند الشيعة:
المداراة عند أهل السنة ـ وهي التَّقِيَّة ـ هي الرفق والتلطُّف لدفع شر الأعداء، والصبر على هدايتهم وإرشادهم؛ عملاً بقوله - تعالى -: إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 82]، بعد أن نهاهم عن موالاة الكافرين رخص لهم في مداراتهم إلى حينٍ في حال الضعف والعجز.
أما التَّقِيَّة[13] عند الرافضة فهي أن يُظهروا ولاسيما للسني ما لا يبطنون؛ فهي دينهم الذي يدينون به وعقيدتهم التي عليها يعتمــدون، وبــسبب ذلــك استــجازوا الكذب على أهل السنة وعلى أئمتهم من قبل، حيث زعم الكليني أن أبا عبد الله ـ جعفر الصادق ـ قال: (تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين).
وينسب الشيعة لبعض آل البيت ـ كذباً ـ: (من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي).
لقد فسر الشيعة جُلَّ تصرفات أئمتهم على ضوء هذه الفِرْية؛ فسكوت عليِّ مثلاً على أبــي بكــر وعمــر وعثمــــان - رضي الله عنهم - جميعاً ـ ومبايعته لهم تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية - رضي الله عنهما - كان تقية، مما جعل المستشرق المجري «جولد زيهر» يسخر منهم قائلاً: (من اليسير أن تتصور أي مدرسة للمخاتلة والغدر تنطوي عليها تعليم مبدأ التقية الذي أصبح ركناً من أركان المذهب الشيعي)[14].
ومما يدل على تمكُّن هذه العقيدة عند أئمة الشيعة وعامتهم ما أكده الخميني من أن التقية أمر عَقَدي، حيث قال: (إن كل من له أقل قدر من التعقُّل يدرك أن حكم التقية من أحكام الإله المؤكدة، فقد جاء أنَّ من لا تقية له لا دين له)[15].

• من ينبغي مداراتهم:
المداراة مندوب إليها، وتستحب مع جميع الخلق، سيما مع من يلي:
1 ـ الكافر.
2 ـ الحاكم الجبار المتسلط.
3 ـ المؤلفة قلوبهم.
4 ـ الزنديق والمبتدع المتبوع.
5 ـ المقلد المتعصب.
6 ـ العالم للاستفادة من علمه.
7 ـ الصَّديق.
8 ـ العدو.
9 ـ الزوج.
10 ـ المريض.
11 ـ الجاهل.
قال القاضي أبو يوسف - رحمه الله - ـ: (خمسة يجب على الناس مداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقبس من علمه)[16]، وقد استحسن ذلك الإمام أحمد منه.

• نماذج من مداراة الرسل وأتباعِهم للأعداء من الكفار ومن يُخشى شرهم:
لقد سلك الرسل والأنبياء - عليهم السلام - هذا المسلك مع أعدائهم، ودفعوا به كثيراً من الشرور عن أنفسهم وعن أتباعهم، سيما في بدايات أمر دعوتهم.
بل إن الله - عز وجل - لم يأذن لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في جهاد الدفع إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين وقامــت دولتهـــم، وما الأمر بعدم الجهر بالدعوة في السنوات الثلاث الأولى من البعثة إلا لكفِّ الأذى ودفع الشر ومداراة حزب الشيطان، وإلا فإنه لو جهر بدعوته من أول يوم لقضي عليها، ولكُبِتَتْ في مهدها؛ فسبحان من شرع المداراة لمدافعة شر الأعداء، وصلى الله على رسولنا الذي أنزل فيه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ [فصلت: 33].
سنشير إلى بعض النماذج من مداراة الرسل وأتباعِهم الأعداءَ؛ درءاً لشرهم، ورغبة في هدايتهم، وحفاظاً على أتباعهم، لعل الله ينفع بها في هذا العصر؛ عصر الغربة عن الإسلام: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء»[17]، وتذكيراً وتنبيهاً لأمر مهم وقـــاعـــدة أساسية: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».

أ ـ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:
كانت المداراة السِّمَة المميزة لسلوك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أعداء الدعوة المتربصين بها الدوائر من اليهود، والمنافقين، والحمقى من المشركين، والمؤلَّفة قلوبهم، وأجلاف الأعراب، سيما في أول الأمر؛ ويدل على ذلك:
1 ـ عدم قتله ابن الصياد وقد ادعى النبوة؛ خوفاً من أن يثير على أتباعه شر اليهود.
2 ـ عدم قتله إمام الكفر والنفاق عبدَ الله بنَ أُبَيِّ بنِ سلول وتلطُّفه به؛ حتى لا يثير عليه قومه وعشيرته.
3 ـ حبه موافقة أهل الكتاب عندما هاجر إلى المدينة؛ ظناً منه أنهم أقرب إليه من المشركين وتألُّفاً لهم.
4 ـ عدم قتله مَنْ سحرَه ـ اليهودي لبيد بن الأعصم ـ واكتفى باستخراج السحر وغسله.
5 ـ عدم قتله اليهودية زينب أخت مرحب التي قدمت له الشاة المسمومة بخيبر وركزت السم في كتفها عندما علمت أنه يفضِّل من الشاة الكتف.
6 ـ عدم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - عليه السلام - بعد أن عزم عليه؛ تألفاً لقريش ورحمة بهــم حتى لا يظنوا به ظن السوء، فقال لعائشة - رضي الله عنها - ـ: «يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشِرْكٍ لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة[18]».
7 ـ إعطاؤه المؤلَّفة قلوبهم في غزوة حُنين وغيرها لكل واحد منهم مائة من الإبل؛ تألفاً لهم وحرصاً على أن يدخل الإيمان في قلوبهم، بل أعطى صفوان بن أمية وادياً من الإبل ووادياً من الغنم حتى أسلم وحسن إسلامه ودعا قومه إلى الإسلام قائلاً: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ بعد أن قال: جئتكم من عند خير الناس.
8 ـ تحرُّجه من زواج زينب بنت جحـــش - رضي الله عنها - بعد أن طلقها ابنه بالتبنِّي زيد بن حارثة - رضي الله عنه - خشية أن يتحدث الناس أن محمداً تزوج زوجة ابنه بالتبنِّي، ولكنَّ ربه أمره بذلك إبطالاً لهذه العادة.
9 ـ أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أمراء الجور وبالصلاة خلفهم وإن أخَّروها.
وأدلة كل ذلك صحيحة ومتوفرة.
10 ـ تبسُّمه وانبساطه في وجه عيينة بن حصن؛ اتقاء شره وخشية أن يؤلب عليه قومه وعشيرته، بعد قوله: «ائذنوا له! بئس أخو العشيرة»، مبرراً ذلك بقوله: «إنا نهشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم».
خرَّج البخــاري في صحيحـــه[19] عن عروة بــن الزبيــر - رضي الله عنهما - أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أنه[20] استأذن فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ائذنوا له؛ فبئس ابن العشـــــيرة، أو بئس أخـــو العشيرة»، فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول الله! قلتَ ما قلتَ، ثم ألنت له في القول؟ فقال: «يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
11 ـ خصَّ مخرمة والد المِسْوَر بقباء؛ لِحِدَّةٍ في لسانه: خرَّج البخاري في صحيحه[21] عن ابــن أبـــي مليكــــة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهديت له أقبية[22] من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة، فلما جاء قال: «خبأت هذا لك». قال أيوب: وكان في خُلُقه شيء.
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذين الحديثين ومعللاً مداراته - صلى الله عليه وسلم - لهما: (إنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خُلُقه من الشدة، فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفاً، وكان مع ذلك أهوج فكان مطاعاً في قومه)[23].
هذا قليل من كثير، إذ لم يكن هدفنا الإحاطة بكل من داراهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قصدنا الإشارة والتنبيه إلى ذلك.

ب ـ إبراهيم، - عليه السلام -:
تتجلى مداراة إبراهيم - عليه السلام - الأعداءَ في ثلاثة أمور، هي:
1 ـ قوله لقومه: إنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 98].
2 ـ وقوله لقومه كذلك: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 36].
3 ـ وقوله لطاغية مصر عندما أراد أن يأخذ زوجه سارة: «إنها أختي».
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يكذب[24] إبراهيم النبي - عليه السلام - قط إلا ثلاث كذبات: ثِنتين في ذات الله، قوله: «إني سقيم»، وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا»، وواحدة في شأن سارة[25]، فإنه قدم أرض جَبَّار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إنْ يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك.. » الحديث.

ج ـ شعيب، - عليه السلام -:
وقد سبق ما قاله شعيب - عليه السلام - مداراة لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88].

د ـ مداراة بعض الصحابة بعضَ أئمة الجور بالصلاة خلفهم:
كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يصلي خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكذلك صلى أنس بن مالك وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - خلف الحجاج بن يوسف، مع فضلهم وسابقتهم، وتفاوت ما بين هؤلاء وبينهم.

هـ ـ مداراة بعض أئمة أهل السنة أئمةَ أهل البدع في مسألة خَلْق القرآن[26]:
لقد دارى وورَّى بعض أئمة أهل السنة أمثال يحيى ابن معين وعلي بن المديني وغيرهما في فتنة خلق القرآن التي ابتدعها أهل الأهواء من المعتزلة وهما: أحمد بن دؤاد وبشر المريسي ـ عليهما من الله ما يستحقانه ـ وغررا بها بعض خلفاء بني العباس: المأمون، والمعتصم، والواثق، وثبت في ذلك من ثبت من أمثال: الإمام أحمد، وأحمد بن نصر الخزاعي، والبويطي تلميذ الإمام الشافعي، وغيرهم كثير، انتصاراً لمذهب أهل السنة ولعقيدة أهل الإسلام، حتى رفع الله الفتنة على يد الخليفة العباســي المتـوكل - رحمه الله - كما ذكر ذلك مؤرخو الإسلام: الطبري، وابن كثير، والذهبي، وغيرهم.

و ـ مداراة بعض العلماء والفقهاء الذين خرجوا مع ابن الأشعث على الحجاج:
قال ابن كثير: (قال ابن جرير: ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفــا عــن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الأشعـث نادى مناديه في الناس: من رجع فهو آمن، ومن لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن، فلحق بمسلم خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث، فأمنهم الحجاج.
إلى أن قــال: وكان الشعبي من جملـة من صار إلى مسلم ابن قتيبة، فذكره الحجاج يـومـاً، فقيـل له: إنه سار إلى مسلـم ابن قتيبـة، فكـتب إلـى مسلـم أن ابعث إلـيَّ بالشعبي.
قال الشعبي: فلما دخلت عليه سلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: أيها الأمير! إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم اللــه! لا أقــول في هــذا المقــام إلا الحق كائناً في ذلك ما كان، وقد والله تمردنا عليك، وخرجنا وجهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، وقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوتنا فبذنوبنا وما جرَّت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد ذلك فالحجة علينا.
فقال الحجاج: أنت والله يا شعبي أحب إليَّ ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلتُ ولا شهدتُ، قد أمِنْتَ عندنا يا شعبي!
قال: فانصرفت، فمشيت قليلاً، فقال: هلمَّ يا شعبي! قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي! فاطمأنت نفسي. قال: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي؟ قال: وكان لي مُكرِماً قبل الخروج عليه، فقلت: أصلح الله الأمير، قد اكتحلتُ بعدك السهرَ، واستوعرتُ السهلَ، واستوخمتُ الجناب، واستخلصتُ الخوف، واستحليتُ الهم، وفقدتُ صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خَلَفاً. قال: انصرف يا شعبي! فانصرفت)[27].

• الخلاصة:
الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي يعتزلهم ويعتزل تعليمهم وأمرهم ونهيهم كما أخبر الصادق، ولا بد لمن يخالط الناس أن يداريهم ليدفع شرهم ويتمكن من هدايتهم؛ فلولا مداراة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأعداءَ من اليهود والمنافقين، وصبره على الأعراب الغلاظ الجفاة؛ لما تمكن من نشر دعوته، وتأمين أصحابه، سيما في بداية أمره، ولهذا كان ينهاهم عن مواجهة الأعداء، ويأمرهم بالصبر والاحتساب، ويذكرهم بما لاقاه أتباع الرسل من قبل، ويحذرهم من الاستعجال، وينهاهم عن التهور والارتجال.
عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا! قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحـــديد مــا دون لحمه من عظـــم أو عصــب، وما يصده ذلك عـــن ديــنه، واللـه ليتمَّــنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضـرموت لا يخـــاف إلا الــله - عز وجل - أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[28].
لم يتمكن الكفار من الوصول إلى ما أرادوا إلا بالتخطيط والتدبير، وبالنَّفَس الطويل، وبوضع الخطط ومرحلتها، وباستغلال الفرص وانتهازها.
وأخيراً: ينبغي على المرء أن يؤمن بالله ثم يستقيم على الصراط المستقيم، وأن يحذر الركون إلى أسلوب التنازلات والمساومات، وأن يعمل لإعلاء كلمة الدين والتمكين للمسلمين، وليس عليه إدراك النجاح: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ [التوبة: 501].
والله الموفق للخيرات، وصلى الله على محمد الداعي إلى جميع المكرمات، وعلى آله وأصحابه ومن والاهم حتى الممات.

________________
[1] ج 3، مادة: درأ.
[2] الفتح: 10/ 528.
[3] أخرجه البخاري تعليقاً ووصله غيره، وقال الحافظ في الفتح10/ 544: إما حسن أو صحيح.
[4] يعني: بخير.
[5] أبو داود رقم (4838)، والألباني في السلسلة الصحيحة: 3/ 917.
[6] أخرجه ابن حبان في صحيحه: 2/ 216، وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية 3/ 451: وهو حديث حسن، وقال الحـافظ في الفتح10/ 545: رواه الطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفـوه، وقـال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وروي بسند أحسن منه.
[7] الترمذي رقم (2507)، وابن ماجه (4032)، وأحمد: 2/ 43، وقال محقق الآداب الشرعية: وإسناده صحيح.
[8] الآداب الشرعية: 3/ 254. وبهجة المجالــس، المجلــد الثـــاني من القســم الأول، ص 661 والصفحات التي تليها. وموسوعة نضرة النعيم: 8/ 3363 والصفحات التي تليها.
[9] ص 223.
[10] من قولهم «كفأ القِدْر» أي: غطاه.
[11] الفتح: 10/ 528-529.
[12] الروح لابن القيم، ص 208.
[13] انظر: ضحى الإسلام لأحمد أمين: 3/247-249، ومنهاج السنة لابن تيمية: 1/ 130، بتحقيق: محمد رشاد سالم.
[14] منهاج السنة نقلاً عن كتاب العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 181.
[15] كشف الأسرار للخميني، ص 148.
[16] الآداب الشرعية: 3/ 459.
[17] قال في مجمع الزوائد: 7/ 280: رواه أحمد، والبزار، وأبو يَعْلى، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح.
[18] صحيح مسلم، رقم الحديث (1333).
[19] البخاري، رقم (6131).
[20] أي: عيينة بن حصن.
[21] رقم (6132).
[22] جمع قباء من حرير.
[23] الفتح: 10/ 529.
[24] لقد عرَّض إبراهيم. ويطلق الكذب على التعريض مجازاً.
[25] وهي في ذات الله.
[26] انظر: البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، المجلد 5 ج10/ 303-342.
[27] البداية والنهاية، لابن كثير، مجلد 5 ج9/ 49-50.
[28] التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، للزبيدي، رقم (1508).



http://www.islamselect.net/mat/63326

الغردينيا
03-11-2012, 10:07 AM
بارك الله فيك أخي الفاضل أبي عقيل وجزاك الله خيرا على الطرح القيم

عبد الغني رضا
03-11-2012, 11:15 PM
وإياك رفع الله قدرك واعلى نزلك في الدارين

أسامي عابرة
04-11-2012, 01:00 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيكم وأحسن إليكم في الدارين

طرح طيب موفق ، نفع الله به

فاديا
04-11-2012, 04:16 AM
موضوع جميل جدا ومميز بارك الله فيك اخي على هذه الفائدة

ويقول علم النفس ايضا ان اعتزال من أذانا واساء الينا يؤدي الى رسم صور خارقة له في الخيال ، حيث ان الانقطاع عن التعامل نهائيا مع المسيء لن يمنع العقل من استمرار رسم صور له تعطيه قوة وهمية اكبر ثم اكبر قد تكون غير حقيقية مقارنة بالواقع ، حتى يقع في قناعتنا ان ذاك العدو تفوق علينا
بينما معايشة واقعه تزيد لنا فرص التطور والارتقاء لمنافسته ، كما ان الاطلاع على واقعه سيعطينا نقاط ضعفه وبالتالي لن يجد العقل سببا لرسم صور التفوق له وبالمقابل تزيد ثقتنا بأنفسنا

فالاعتزال من اسباب الضعف ، والمعايشة سبب من اسباب القوة

أسامي عابرة
04-11-2012, 06:33 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بارك الله فيكِ أختي الحبيبة فاديا مداخلة طيبة

ميسون محبة الصالحين
04-11-2012, 08:16 AM
بارك الله فيكم أخي أبي عقيل ،،، أسلوب نبوي ينم عن ذكاء وفطنة وهبهما الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،،
كلام جميل جدا فاديا وهذا ما أفعله وحتى لو واجهت بعض العقبات

عبد الغني رضا
05-11-2012, 07:06 PM
جزاكن الله خيري الدنيا والاخرة آمين