المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المراءوالجدال


الطاهرة المقدامة
21-11-2011, 10:27 AM
المراءوالجدال

د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان


وهي آفة قد ابتلينا بها جميعا، صغيرنا وكبيرنا، رجالنا ونساؤنا، هذه الكارثة أو هذه الآفة حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر هؤلاء التاركين للمراء، في حديث أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها ومن حسن خلقه بني له في أعلاها" (1).والله سبحانه وتعالى يعني إذا رضي الله عن قوم رزقهم العمل ومنعهم الجدل، وإذا غضب الله على قوم منعهم العمل ورزقهم الجدل....

والإنسان عندما يقرأ حكمة لقمان لابنه وهو يعظه ويقول له من ضمن هذه الحكم والمواعظ الطيبة: "يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك(2).كان الصالحون يقولون: إذا رأيت الرجل لجوجا، مماريا، معجبا برأيه؛ فقد تمت خسارته، والعياذ بالله رب العالمين، وقال ابن أبي ليلى، رحمه الله، يقول: لا أماري صاحبي، فإما أن أكذبه، وإما أن أغضبه" (3)، يعني أنا لا أماري صديق ولا أجادله لأن إما أن أكذبه فيما يقول وإما أن أغضبه، وهذا ليس من حق الصحبة. كان عمر رضي الله عنه يحذر ويقول: لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث، لا تتعلمه لتماري به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به، ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل منه" (4).
أقسام المراء والجدل:
المراء والجدال يكون إما في اللفظ، أو في المعنى، أو في قصد المتكلم، وإذا كان المراء في أمر لا يخص أمور الدين والعقيدة، فالأولى بالمرء حينئذ السكوت.
المجادلة هي: أن يقصد الإنسان إفحام الغير وأن يعجزه وأن ينقصه، ويقلل من قيمته بأن يقدح في كلامه، وينسبه إلى أنه جاهل وقاصر الفكر، وأنه محدود المعرفة. وما تجادل قوم إلا وخرجوا من هذا الجدال وصدورهم قد أوغرت تجاه بعضهم البعض، فإذا جادل رجل زوجته، جادلت امرأة زوجها، جادل جار جاره، جادل أخ أخاه، فالجدال والمراء لا يأتيان بخير أبدا.للأسف الشديد أن الذي يبعث على المراء والجدال هو أن الإنسان يُظهر نفسه أمام الآخرين أنه يفقه أكثر منهم وأنه يعلم أفضل منهم، فهو يريد أن ينقص من قدر صاحبه ومن قدر أخيه المماري له أو المجادل له، ويريد أن يُظهر أمام الناس على أنه عالم والآخر جاهل، وأنه صاحب فضل، وهذه فيها تزكية للنفس، ونحن منهيون عن أن يزكي الإنسان نفسه، ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم: من الآية32).
لما أماري إنسان وأجادله أريد أن أتعالى عليه، والعلو والكبرياء هذه من صفات الربوبية التي أختص بها رب العباد عز وجل: "الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي فمن نازعني فيهما ألقيته في ناري ثم لا أبالي". و أما أن تنقص من شأن الآخرين فهذا من الطبيعة السبعية التي في الإنسان وهي الرغبة في أن تمزق من أمامك، تريد أن تشوه صورته، تريد أن تأذيه.
ولذلك المواظب دائما على مسألة المراء والجدال تجده للأسف الشديد إنساناً متكبراً لا يقبل النصيحة، لكن كل مسألة في الإسلام وكل آفة، سواء من آفات اللسان، أو آفات القلوب، أو الذنوب كبيرة أو صغيرة لها علاج.
علاج المراء والجدال:
أن يحاول الإنسان أن يُبعد نفسه عن الكبر، لأن الكبر والغرور والعجب هو الذي يجعل الإنسان يماري ويجادل لأنه لا يقبل رأي الآخرين، لذلك يريد أن يقلل من شأن الآخر. من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيت في أعلى الجنة، لماذا؟ لأن الجدال والمراء محبب إلى النفس البشرية، محبب إلى النفس البشرية أن تنتقص من قدر الآخرين، أن تقلل من شأن الآخر، أن تظهرني أنا في مستوى معين وتظهر الآخر أنه أقل مني، فهذا يدخل على الإنسان الكبر والعجب والرياء وحب الظهور؛ وأنه صاحب فضل. ثم بعد ذلك، يظهر عندي إذا لم أنجح في المراء أو الجدال ولم أقحم الطرف الآخر، أو من أجادل، أو من أماري بفكرتي أو برأيي أو بما أقول: عندئذ أغضب وهذا الغضب قد يثمر.
نقول دائما أن من ثمرة المعصية؛ المعصية بعدها، ومن ثمرة السيئة؛ السيئة بعدها، فنحن للأسف الشديد عندما نماري أحدا ولا نستطيع أن نغلبه؛ عندئذ يأتي الشيطان ليشجعنا على أن نغتابه ونذكره بالسوء لأننا قد خسرنا جولة المراء أو الجدال معه، فنعوض هذه بأن ننقص من قدره وأن نصغر منه، وأن نظهر الخلل الذي هو فيه، فارتكبنا مصيبة الغيبة بعدما ارتكبنا كارثة المراء والجدال، يعني سبحان الله!! يمسك الإنسان ليضع كلام أخيه تحت الميكروسكوب ويقول له: لقد أخطأت في كذا وقلت كذا، وأنت تنطق اللغة العربية بطريقة سيئة، أو بطريقة ليست على الوجه الصحيح، ورأيك هذا رأي باطل. ولا نترك مجالا للآخر حتى يعرض وجهة نظره.
لاح عمر أبا بكر مرة، يعني حدث جدال بين أبي بكر وعمر، فغضب أو أحزن عمر أبا بكر. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر و التزمه، أي احتضنه هكذا بجواره، وقال: "هلا تركتم لي صاحبي" (5)، فيقول عمر: فما لاحيت أبا بكر بعدها إلى أن مات، يعني ما جادله حتى في أمر الردة. ففي الحديث عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر، رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق" (6). ثم قال لعمر: "عجيب أمرك يا ابن الخطاب! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام، جئتك لنصرتي، فجئتني بخذلانك. فما لاح عمر أبا بكر" (7).
حقيقة الأمر المراء والجدال لا يأتي إلا من الكبر، وأول ما عصي رب العباد سبحانه وتعالى في هذه الأرض كان عن طريق الكبر، لأن إبليس لما أبى أن يسجد لأبينا آدم كان عبارة عن كبر، فإذا كانت الخمر أم الكبائر فالكبر أبوها، الكبر أبو الكبائر، لأن الكبائر تأتي تحت عنوان أن الإنسان يتكبر على الأمر، يتكبر على قبول الموعظة، يتكبر على قبول النصيحة.انظر إلى أبنائنا في البيوت؛ إذا قال الأب لابنه شرِّق غرَّب، إذا قال الرجل لابنه أو لابنته أو الأم لابنتها يمنة سارت يسرة، لماذا؟! حتى إن أراد الأب أن يقنع ابنه جادل وراءى ومارى وأخذ يقول أن أبي رجل مولود من ستين سنة ولا يفهم مقتضيات العصر ولا يفهم تغير الزمن.هذا المراء وهذا الجدال هو الذي أوردنا موارد التهلكة، لكن الكارثة الأكبر أن نماري ونجادل في أوامر الله عز وجل، يجب أن نأخذ الأمر في أوامر الله سبحانه وتعالى ونقول سمعنا وأطعنا ولا نكون كبني إسرائيل الذين قالوا: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) (البقرة: من الآية93).
فانظر أخ الإسلام، هؤلاء الصحابة ما جادلوا، ما تماروا فيما بينهم، وإنما كان الواحد منهم يسمع ويطيع وينفذ. وكانوا كثيرة أعمالهم قليلة أقوالهم، لكننا صرنا في زمن كثيرة أقوالنا قليلة أعمالنا، نتكلم كثيرا ونعمل قليلا، ينما كان الصحابة يعملون كثيرا ويتكلمون قليلا. أما نحن نماري ونجادل، والعمل قليل، إلا من رحمه الله.وهذه آفة خطيرة يجب أن نراعي الله سبحانه وتعالى في أنفسنا ونعلم أن المراء والجدل يترتب عليهما إغضاب الأخوة من بعضهم وإغضاب الزوج من زوجته، وإغضاب الزوجة من زوجها.
حتى قال الإعرابي لزوجته:
و لا تنقريني نقرك الدف مرة فإنك لا تعلمين كيف المغيب
أي: أنك لا تعلمين ما في النفس الإنسانية من أشياء قد تخرج ساعة الإغضاب وساعة المماراة وساعة المجادلة، فلا داعي للجدال ولا داعي للمراء. ولذلك الإنسان يجب أن يتعود ألا يجادل وألا يماري، وبالتالي يكون هذا بناء على أنه يتخلى عن الكبر الذي عنده ليقبل رأي وحكم الآخرين.
اللهم ابعد عنا هذه الصفة المذمومة يا رب العالمين ولا تجعلنا من الممارين ولا تجعلنا من المجادلين, واجعلنا من الذين قالوا سمعنا وأطعنا ولم يقولوا سمعنا وعصينا إنك على ما تشاء قدير.

1) -أخرجه الترمذي في "السنن" (4/358) رقم (1993)، وابن ماجه في "السنن" (1/91) رقم (51)، وابن عدي في "الكامل" (3/334).
2) - أنظر جامع البيان للطبري (21/71).
3) - انظر "تذكرة الحفاظ" 1/26).
4) - رواه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" 1/284)، وانظر لزاما "تدريب الراوي" 2/148).
5) - الحديث أخرجه البخاري في" صحيحه" (3/1339) رقم (3461) من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه.
6) - رواه البخاري (2/507) رقم (1335)، ومسلم (1/51) رقم (20).
7) - انظر "البداية والنهاية" قسم حروب الردة.