المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحافظةُ على الأدعيةِ المأثُورَةِ"للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله"


أحمد سالم ,
16-05-2011, 12:15 PM
سورةُ آل عِمرَانَ
المحافظةُ على الأدعيةِ المأثُورَةِ

قال الله تعالى مخبرًا عن أولي الألباب أنّهم يدعونه قائلين : ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ ( آل عمران : 192-194 ) .
أدعيةُ القرآن و السّنّة جامعةٌ مانعةٌ ، لا يتأتّى للبشر أن ينسُجوا على مِنوالها ؛ لأنّها وحيٌ ، و مهما تأمّلتَ في أدعية البشر من رونقٍ و جمالٍ و حسن أداءٍ و تأثيرٍ ، فإن الخلل مصاحبُها مصاحبة النّقص للبشر ، و من أطلعه الله على ما أودع من حِكمٍ وقواعدَ في أدعية القرآن والسّنّة أدرك لأوّل وهلةٍ أنّ هذا من تنزيل حكيمٍ عليمٍ ، و هذه الآيات من سورة آل عمران مثالٌ قرآنيٌّ على ذلك ، قال ابن القيّم في ” بدائع الفوائد ” ( 2/434-435 ) :
” و الشّرُّ المستعاذ منه نوعان :
أحدهما : موجودٌ يطلب رفعه .
والثّاني : معدومٌ يطلب بقاؤُه على العدم و أن لا يوجد .
كما أنّ الخيرَ المطلقَ نوعان :
أحدهما : موجودٌ فيطلب دوامه و ثباته و أن لا يُسْلَبَه .
والثّاني : معدومٌ فيطلب وجوده و حصوله .
فهذه أربعةٌ هي أمّهات مطالب السّائلين من ربّ العالمين ، وعليها مدارُ طلباتهم ، وقد جاءت هذه المطالب الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم : ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا ﴾ ( آل عمران : 193 ) ، فهذا الطّلبُ لدفع الشّرّ الموجود ؛ فإنّ الذّنوبَ و السّيِّئاتِ شرٌّ كما تقدّم بيانه ، ثمّ قال : ﴿ وَ تَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ﴾ ، فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود ، و هو الإيمان حتّى يتوفّاهم عليه ، فهذان قسمان ، ثمّ قال : ﴿ رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ﴾ ( آل عمران : 194 ) فهذا طلبٌ للخير المعدوم أن يؤتيهم إيّاه ، ثمّ قال : ﴿ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشّرَّ المعدوم ، و هو خِزي يوم القيامة ، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظامٍ ، مرتَّبةً أحسنَ ترتيبٍ ، قُدِّم فيها النّوعان اللّذان في الدّنيا ، و هما المغفرة و دوام الإسلام إلى الموت ، ثمّ أُتبعا بالنّوعين اللّذين في الآخرة ، و هما أن يُعطَوا ما وُعدوه على ألسنة رسله ، و أن لا يخزيهم يوم القيامة ، فإذا عُرِف هذا ، فقوله في تشهّد الخُطبة : ( و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ) (1) يتناول الاستعاذةَ من شرّ النّفس الّذي هو معدومٌ ، لكنّه فيها بالقوّة ، فيسأل دفعَه و أن لا يوجدَ ، و أمّا قوله من سيّئات أعمالنا ) ، ففيه قولان : أحدُهما أنّه استعاذة من الأعمال السّيِّئة الّتي قد وُجدت ، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشّرِّ المعدوم الّذي لم يوجد ، و من الشّرّ الموجود ، فطلبَ دفعَ الأوّل و رفعَ الثّاني ، و القولُ الثّاني أنّ سيّئات الأعمال هي عقوباتها و موجباتها السّيّئة الّتي تسوءُ صاحبَها ، و على هذا يكون من استعاذة الدّفع أيضًا دفعُ المسبّب ، و الأوّلُ دفعُ السّبب ، فيكون قد استعاذ من حصول الألم و أسبابه ، و على الأوّل يكون إضافة السّيّئات إلى الأعمال من باب إضافة النّوع إلى جنسه ؛ فإنّ الأعمال جنسٌ و سيّئاتها نوعٌ منها ، و على الثّاني يكونُ من باب إضافة المسبّب إلى سببه ، و المعلول إلى علّته ، كأنّه قال : من عقوبة عملي ، و القولان محتملان ، فتأمّل أيّهما أليقُ بالحديث و أولى به ؛ فإنّ مع كلّ واحدٍ منهما نوعًا من التّرجيح ، فيترجّح الأوّلُ بأنّ منشأَ الأعمال السّيّئة من شرّ النّفس ، فشرُّ النّفس يولِّد الأعمالَ السّيّئة ، فاستعاذ من صفة النّفس و من الأعمال التي تحدثُ عن تلك الصّفة ، و هذان جماع الشّرِّ وأسبابُ كلّ ألمٍ ، فمتى عوفي منها عوفي من الشّرّ بحذافيره ، و يترجّح الثّاني بأنّ سيّئات الأعمال هي العقوباتُ الّتي تسوء العاملَ ، و أسبابها شرُّ النّفس ، فاستعاذ من العقوباتِ والآلامِ و أسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذةُ من أحدهما تستلزم الاستعاذةَ من الآخر ” . ثمّ قال : ” و لمّا كان الشّرّ له سببٌ هو مصدرُه ، و له موردٌ و منتهى ، و كان السّبب إمّا من ذات العبد ، و إمّا من خارجه ، و موردُه و منتهاهُ إمّا نفسه ، و إمّا غيرُه ، كان هنا أربعةُ أمورٍ:
شرٌّ مصدره من نفسه ، و يعود على نفسه تارةً ، و على غيره أخرى ، و شرٌّ مصدره من غيره ، و هو السّببُ فيه و يعود على نفسه تارة ، و على غيره أخرى ، جمع النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم هذه المقامات الأربعة في الدّعاء الّذي علّمه الصّديقَ أن يقوله إذا أصبح و إذا أمسى و إذا أخذ مضجعه : ( اللهمّ فاطرَ السّموات و الأرض ، عالمَ الغيب و الشّهادة ، ربَّ كلِّ شيءٍ و مليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ ، أعوذ بك من شرّ نفسي و شرّ الشّيطان و شِركه ، و أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم ) (2) ، فذكر مصدري الشّرّ و هما النّفس و الشّيطان ، و ذكر مورديه و نهايتيه ، و هما عَودُه على النّفس أو على أخيه المسلم ، فجمع الحديثُ مصادر الشّرّ و موارده في أوجز لفظٍ و أخصره و أجمعه و أبينه ” .
و أمّا من السّنّة فقد كان النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم حريصًا على ألاّ يستبدل أصحابه رضي الله عنهم حرفًا من أدعيتهم بحرف من أدعيته ، و هم من هم ، ففي الصّحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : ” إِذا أتيتَ مَضجَعَكَ فتَوَضَّأْ وُضوءَكَ للصّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِع على شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثمَّ قُلْ : اللّهمَّ أَسْلمتُ وَجهي إِليكَ ، و فَوَّضْتُ أمري إِليكَ ، و أَلجَأتُ ظَهرِي إِليكَ ، رَغبةً و رهبةً إِليكَ ، لا مَلْجَأ و لا مَنْجى منكَ إِلاّ إِليكَ ، اللّهمَّ آمنتُ بكِتابكَ الذي أنْزَلتَ ، و بِنَبِيِّكَ الّذي أَرسلتَ ، فإِنْ متَّ مِن لَيلَتِكَ فأنتَ على الفِطْرةِ ، و اجعلهنَّ آخِرَ ما تتكلّمُ به ، قال : فردَّدْتُها على النبيِّ صلّى الله عليه و سلّم ، فلمّا بَلغتُ : اللّهمَّ آمنتُ بكتابِكَ الّذي أنزلتَ ، قلتُ : وَ رسولِكَ ، قال : لا ! و نبيِّكَ الذي أرسلتَ ” .
و ما دمنا في باب بيان ما في الأدعية المأثورة من كمالٍ ، فإنّني أحببت أن أتحف القارئ بما في هذا الدّعاء النّبويّ من المعاني العالية و القواعد الغالية ، فقد حاول بعض أهل العلم استنباطَها ، كلٌّ بما فتح الله عليه ، منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ في ” فتح الباري ” ( 11/110-112 ) ، و الكِرماني في ” الكواكب الدّراري شرح صحيح البخاري ” ( 3/106-109 ) ، و ابن بطّال في ” شرح صحيح البخاري ” ( 1/365 ) ، و أبو العبّاس أحمد القرطبي في ” المفهِم لما أشكلَ من تلخيص كتاب مسلم ” ( 7/37 ) ، و قد تلخّص من أقوالهم من الفوائد ما يأتي :
1 - في الجمع بين الوُضوء و هذا الدّعاء إشارةٌ إلى الجمع بين الطّهارتين : البدنيّة و القلبيّة ؛ فالوضوء للطّهارة البدنيّة ، و الذّكر للطّهارة القلبيّة ، بل هو خير ما تُطهَّرُ به القلوب ، قال الله تعالى : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ﴾ ( الرّعد : 28 ) ، قال التّرمذي عقب روايته الحديث برقم ( 3574 ) : ” و لا نعلم في شيءٍ من الرّوايات ذكرَ الوضوء إلاّ في هذا الحديث ” ، قلت : لعلّ ذلك راجعٌ إلى هذه المناسبة اللّطيفة ، و قد أشار إلى ذلك ابنُ حجر .
2 – لمّا كان التّوحيدُ أفضل الذّكر فقد جمع هذا الدّعاء أصول الإيمان السّتّة ، كما نبّه عليه الكِرماني ، و هي الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شرّه ، وهذا تفصيله المختصر :
- فالإيمان بالله واضحٌ من النّداء : ” اللهمّ ” .
- و الإيمان بالكتب في قوله : ” آمنتُ بكتابك ” .
- و الإيمان بالملائكة في قوله : “ الّذي أنزلتَ ” ؛ لأنّ الملَك هو الّذي ينزل بكلام الله كما هو معلومٌ ، قال تعالى : ﴿ وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ﴾ ( الشّعراء : 192-193 ) .
- و الإيمان بالرّسل في قوله : ” و نبيّك الّذي أرسلتَ ” ، و يظهرُ هنا فائدة عدم تبديل لفظة ( نبيّك ) بلفظة ( رسولك ) كما وقع للبراء ؛ لأنّه – زيادةً على ما قيل في التّفريق بين النّبيّ و الرّسول – فإنّ الملَك لا يدخل تحت اسم النّبيّ ، لكنّه يدخل تحت اسم الرّسول ، كما جاء في التّنزيل كثيرًا ، منه قوله تعالى : ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ ( الحجّ : 75 ) ، قاله ابنُ بطّال .
- و الإيمان باليوم الآخر في قوله : ” رغبةً و رهبةً إليك ” ، فالرّغبة إلى الجنّة و الثّواب ، و الرّهبة من النّار و العقاب .
- و الإيمان بالقدر في قوله : ” لا ملجأَ و لا منجى منك إلاّ إليك ” ، نبّه على هذين الكِرماني .
3 – في الحديث إسلام الظّاهر والباطن لله ، أي الخلوص من الكفر و النّفاق ؛ و ذلك في قوله : ” اللّهمّ أسلمتُ وجهي إليكَ ” ، و في روايةٍ عند البخاري : ( 7488 ) : ” اللّهمّ أسلمتُ نفسي إليك ، و وجّهتُ وجهي إليك ” ، فهما على هذا جملتان ، وقد جعل بعض أهل العلم النّفس هنا على معنى الذّات ، و الوجه على معنى القصد والنيّة ؛ كما قيل :


أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه ….. ربَّ العباد إليه الوجهُ و العملُ
يقال : أيَّ وجهٍ تريد ؟ أي أيَّ وِجهةٍ تقصد ؟ و عَكَسَه بعضهم فجعل إسلام النّفس لانقياد الباطن ، وتوجيه الوجه لانقياد الظّاهر ، انظر ” الفتح ” في الموضع المشار إليه و ” أضواء البيان ” للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي ( 1/420 ) ، و إن كان الخلاف هنا سهلاً ، فلعلّ القولَ الأخير هو الأقرب و قد مال إليه الكِرماني ؛ لأنّ الجملتين وردتا على سبيل التّقابل و الاقتران كما أشار إليه القرطبي ، بخلاف لو تفرّقتا ، فإنّه يأخذ كلٌّ منهما معنى الآخر ؛ على قاعدة : إذا اجتمعا افترقا ، و إذا افترقا اجتمعا و الله أعلم ، لكن يستخلص من هذه الفائدة أنّ في الدّعاء بهذين اللّفظين إيذانًا بتسليم المرء نفسَه كلّها لله ، و هذا هو معنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، فقد قال ابنُ تيمية في ” مجموع الفتاوى ” ( 10/149 ) : ” العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنة و الظّاهرة ” .
4 – في الحديث إشارة إلى التوكّل على الله ، و للتوكّل ركنان : الحسّ و المعنى ، فتفويض الأمر المعنويّ لله في قوله : ” و فوّضتُ أمري إليكَ ” ، و تفويض الحسّي في قوله : ” و ألجأتُ ظهري إليك ” ، و خصّه بالظّهر ؛ لأنّ العادة جرت أنّ الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه ، ففيه معنى : اعتمدت عليك في أموري كلّها ، كما في ” الفتح ” ، وهذا هو معنى قوله سبحانه :﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ .
5- في الحديث أركان العبادة الثّلاثة : الرّجاء و الخوف و الحبّ ، فأمّا الرّجاء ففي قوله : “رغبةً ” ، و أمّا الخوف ففي قوله : ” رهبةً ” ، و أمّا الحبّ ففي قوله : ” لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك ” ؛ فإنّه لا يُلجأ إلاّ إلى محبوبٍ ، لا سيما و أنّه لا يفرُّ مؤمنٌ من الله إلاّ إليه .


6 – في اشتمال هذا الذّكر على كلّ ما يجب الإيمان به ، و على إسلام الظّاهر و الباطن لله ، و تفويض الأمر الحسّّي و المعنويّ له ، تفسيرٌ لقوله صلّى الله عليه و سلّم فيه : “ فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة ” ؛ فإنّ الفطرة هي الدّين الإسلاميّ .
هذا نموذجٌ حديثيٌّ من الأذكار المأثورة ، و ذاك نموذجٌ قرآنيٌّ ، فانظر إلى معانيها الشّريفة الّتي اشتملت عليها ، و لئن اجتمعت الإنس و الجنُّ على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ، مع أنّ ما خفي علينا من المعاني المستنبطة و الأصول الجامعة أكثر! ولذلك أحبّ أن أنقل هنا و في هذا المعنى كلمةً للمهلّب نقلها عنه ابن بطّال في ” شرح صحيح البخاري ” ( 1/365 ) أنّه قال : ” إنّما لم تُبدّل ألفاظه عليه السّلام ؛ لأنّها ينابيع الحكمة و جوامع الكلم ، فلو جُوِّز أن يُعبّر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النّهاية في البلاغة الّتي أُعطيها عليه السّلام ” ، و قال ابنُ تيمية في ” مجموع الفتاوى ” ( 22/525 ) : ” و من أشدّ الناس عيبًا من يتّخذ حزبًا ليس بمأثورٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و إن كان حزبًا لبعض المشايخ ، و يدع الأحزاب النّبويّة الّتي كان يقولها سيّد بني آدم و إمام الخلق و حجّة الله على عباده ! ” .
و من أعظم فوائد هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم منع البراء من أن يغيّر لفظًا واحدًا من ألفاظ دعائه هذا ، مع أنّ التّغيير كان بين لفظتين قريبتي المعنى ، فقد قال البراء : قلت : و رسولك الّذي أرسلت ، فاعترض عليه الرّسول صلّى الله عليه و سلّم و قال له : “ لا ! و نبيّك الّذي أرسلت ” ، فكيف يجترئ أحدٌ بعد هذا ليخترع للنّاس الأذكار ؟!!
و كذلك الشّأن فيما رَتَّب الشّارع الحكيم ثوابًا ما على عددٍ مخصوصٍ من الذّكر ، قال ابنُ حجَر في ” الفتح ” ( 2/330 ) و هو يتحدّث عن التّسبيح بعد الصّلاة : ” و استُنبِط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرةٌ ، و إلاّ لكان يمكن أن يُقال لهم : أضيفوا لها التّهليل ثلاثًا و ثلاثين ، وقد كان بعض العلماء يقول : إنّ الأعداد الواردة كالذّكر عقب الصّلوات إذا رُتّب عليها ثوابٌ مخصوصٌ فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثّواب المخصوص ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمةٌ وخاصّيّةٌ تفوت بمجاوزة ذلك العدد … و قد مثّله بعض العلماء بالدّواء يكون مثلا فيه أوقِيَّة سكّر ، فلو زيد فيه أوقيّةٌ أخرى لتخلّف الانتفاع به ، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدّواء ، ثمّ استعمل من السّكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلّف الانتفاع ، و يؤيّد ذلك أنّ الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلٍّ منها عددٌ مخصوصٌ مع طلب الإتيان بجميعها متواليةً لم تحسن الزّيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة ؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمةٌ خاصّة تفوت بفواتها ، و الله أعلم ” .
و قد نبّه أهل العلم على ضرورة القناعة بالألفاظ النّبويّة الواردة في الأذكار ؛ لأنّها شريعةٌ لنا و استدلّوا زيادةً على ما مضى بما رواه مسلم (2137 ) عن سمرةَ بن جُندب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : ” أحبّ الكلام إلى الله أربعٌ : سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ ” ، و موضع الشّاهد من الحديث هو قوله صلّى الله عليه وسلّم : ” لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ ” ، فدلّ بمنطوقه على التّقيّد بالكلام الّذي يحبّه الله من غير زيادةِ لفظةٍ عليه و لا نقصانٍ إلاّ ما ورد به الدّليل ؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم أخبر أنّ الله يحبّ هذه الكلمات بعينها ، و المؤمن لا يختار لنفسه غير ما اختار الله له و رسوله ؛ لأنّ الله يقول : ﴿ وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾( الأحزاب : 36 ) ، قال ابنُ كثير في تفسيرها : ” فهذه الآية عامّةٌ في جميع الأمور ، و ذلك أنّه إذا حكم الله و رسوله بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته ، و لا اختيارَ لأحدٍ هنا ، و لا رأيَ و لا قولَ ” ، كما دلّ بمنطوقه أيضًا على أن التّقيّد بترتيب هذه الكلمات خاصّةً غيرُ مطلوب ، و دلّ بمفهومه على أن التّقيّد بترتيب الأذكار الأخرى هو الأصل الّذي جرى عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عيه و سلّم ، و قد مرّ عنهم شيءٌ من ذلك ، و لمّا علم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم منهم ذلك لشدّة اتّباعهم للسّنّة و وقوفهم عند حرفية اللّفظ النّبويّ ، بيّن لهم أنّ ترتيب جمل هذه الألفاظ الخاصّة بعضِها على بعضٍ ليس أمرًا مطلوبًا فاستثناه و نفى الضّرر عمّن لا يرتّبها ، الأمر الّذي يدلّ على أنّ التّقيّد بالألفاظ النّبويّة و أعدادها و ترتيبها كما جاءت هو جادّة أهل الاتّباع الّذين يرجون القبول عند الله .
و أمّا دعاء المرء لنفسه بما شاء من حاجاته الّتي لا تكاد تنحصر فلا شكّ في جوازه ما لم يصحبه محظورٌ شرعيٌّ ؛ لأنّ الله قال : ﴿ وَ قَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ( غافر : 60 ) ، و بشرط أن لا يجعل ما جرّبه من أدعيةٍ مخترعة سنّةً لنفسه و لا لغيره ، و لو وجد فيها صاحبُها نوعَ استجابةٍ و تأثيرٍ ؛ لأنّ التّجربة ليست من مصادر الشّريعة ، و لا يجوز أن يقال : هذا دعاءٌ مجرّبٌ بُغيةَ ترتيبه للنّاس ؛ لأنّ الله لم يأذن لأحدٍ أن يشرَع لأحدٍ بعد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و قد قال : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ منَ ٱلدينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ ﴾ ( الشورى : 21 ) ، و للقاضي عياض كلمةٌ عظيمةٌ في هذا المعنى ، نقلها عنه ابنُ علاّن في ” شرح الأذكار ” ( 1/17 ) أنّه قال : ” أذن الله في دعائه ، و علّم الدّعاء في كتابه لخليقته ، وعلّم النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم الدّعاء لأمّته ، و اجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلم بالتّوحيد ، و العلم باللّغة ، و النّصيحة للأمّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدل عن دعائه صلّى الله عليه و سلّم ، و قد احتال الشّيطان للنّاس من هذا المقام ، فقيّض لهم قوم سوءٍ يخترعون لهم الأدعية ، يشتغلون بها عن الاقتداء بالنّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و أشدّ ما في الإحالة أنّهم ينسبونها إلى الأنبياء و الصّالحين ، فيقولون : دعاء نوح ! دعاء يونس ! دعاء أبي بكر ! فاتّقوا الله في أنفسكم ، لا تشتغلوا من الحديث إلاّ الصّحيح ” .
و بعدُ ، فهذه عبرةٌ للمعرضين عن الألفاظ النّبويّة ، المتوسّعين في ابتداع الأذكار و الأدعية ، المفتونين بالألفاظ البشريّة ، لا سيما ما ثُرثِرَ فيه بزخرفٍ من السّجع ، كما أنّها تحذيرٌ شديدٌ لأولئك الّذين يستغلّون جهل العوامّ وحبّهم للذّكر ليبيعوا لهم الأدعية ؛ كي تملأ لهم الأوعية ، والسّعيد من اتّبع السّنّة ، وأيقنَ أنّها خير ما تُعبّد به الإنسُ و الجِنّة ، و قد كان خيرة هذه الأمة أيقظ النّاس لاتّباع الأذكار النّبويّة كما نطق بها المصطفى صلّى الله عليه و سلّم ، فعن نافع أنّ رجلاً عطس إلى جنب ابن عمرَ ، فقال : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، قال ابن عمر : و أنا أقول : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، و ليس هكذا علّمَنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، علّمَنا أن نقول : الحمد لله على كلّ حالٍ ” رواه التّرمذيُّ ( 2738 ) ، وصحّحه الألبانيُّ فيه .
و أمّا كون أدعية البشر لا تسلم من النّقص ، فإنّني أمثّل له بمثالٍ ماتعٍ و مُقنعٍ ، رواه مسلم ( 2688 ) عن أنسٍ رضي الله عنه ” أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفَرْخِ ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسألُه إيّاه ؟ قال : نعم ! كنتُ أقول : اللّهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه ! أفلا قلتَ : اللّهمّ آتنا في الدّنيا حسنةً و في الآخرة حسنةً ، وقِنا عذاب النّار ، قال : فدعا الله له فشفاه ” .
فهذا صحابيٌّ كاد يُهلك نفسَه في الدّنيا حين اختار هذا الدّعاء الّذي ظاهره خيرٌ ؛ لأنّه يدلّ على الخشية من الله ، لكن من ذا الّذي يُطيق عذاب الله ؟ !فإذا كان الصّحابيّ – الذي كان مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم – عُرضةً للخطأ في اختيار الأدعية من عند نفسه ، فكيف بمن دونه ؟! و الله العاصم .
____________________
(1) : أخرجه أهل السّنن ، وصحّحه الألباني في ” خطبة الحاجة ” .
(2) : أخرجه التّرمذي ( 3529 ) و الحاكم ( 1/513 ) و صحّحاه ، وانظر ” السّلسلة الصّحيحة ” للألباني ( 2763 ) .

من كلّ سورة فائدة ” للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله

ام مصطفى عبد
16-05-2011, 04:17 PM
سورةُ آل عِمرَانَ
المحافظةُ على الأدعيةِ المأثُورَةِ

قال الله تعالى مخبرًا عن أولي الألباب أنّهم يدعونه قائلين : ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ ( آل عمران : 192-194 ) .
أدعيةُ القرآن و السّنّة جامعةٌ مانعةٌ ، لا يتأتّى للبشر أن ينسُجوا على مِنوالها ؛ لأنّها وحيٌ ، و مهما تأمّلتَ في أدعية البشر من رونقٍ و جمالٍ و حسن أداءٍ و تأثيرٍ ، فإن الخلل مصاحبُها مصاحبة النّقص للبشر ، و من أطلعه الله على ما أودع من حِكمٍ وقواعدَ في أدعية القرآن والسّنّة أدرك لأوّل وهلةٍ أنّ هذا من تنزيل حكيمٍ عليمٍ ، و هذه الآيات من سورة آل عمران مثالٌ قرآنيٌّ على ذلك ، قال ابن القيّم في ” بدائع الفوائد ” ( 2/434-435 ) :
” و الشّرُّ المستعاذ منه نوعان :
أحدهما : موجودٌ يطلب رفعه .
والثّاني : معدومٌ يطلب بقاؤُه على العدم و أن لا يوجد .
كما أنّ الخيرَ المطلقَ نوعان :
أحدهما : موجودٌ فيطلب دوامه و ثباته و أن لا يُسْلَبَه .
والثّاني : معدومٌ فيطلب وجوده و حصوله .
فهذه أربعةٌ هي أمّهات مطالب السّائلين من ربّ العالمين ، وعليها مدارُ طلباتهم ، وقد جاءت هذه المطالب الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم : ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا ﴾ ( آل عمران : 193 ) ، فهذا الطّلبُ لدفع الشّرّ الموجود ؛ فإنّ الذّنوبَ و السّيِّئاتِ شرٌّ كما تقدّم بيانه ، ثمّ قال : ﴿ وَ تَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ﴾ ، فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود ، و هو الإيمان حتّى يتوفّاهم عليه ، فهذان قسمان ، ثمّ قال : ﴿ رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ﴾ ( آل عمران : 194 ) فهذا طلبٌ للخير المعدوم أن يؤتيهم إيّاه ، ثمّ قال : ﴿ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ ، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشّرَّ المعدوم ، و هو خِزي يوم القيامة ، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظامٍ ، مرتَّبةً أحسنَ ترتيبٍ ، قُدِّم فيها النّوعان اللّذان في الدّنيا ، و هما المغفرة و دوام الإسلام إلى الموت ، ثمّ أُتبعا بالنّوعين اللّذين في الآخرة ، و هما أن يُعطَوا ما وُعدوه على ألسنة رسله ، و أن لا يخزيهم يوم القيامة ، فإذا عُرِف هذا ، فقوله في تشهّد الخُطبة : ( و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ) (1) يتناول الاستعاذةَ من شرّ النّفس الّذي هو معدومٌ ، لكنّه فيها بالقوّة ، فيسأل دفعَه و أن لا يوجدَ ، و أمّا قوله من سيّئات أعمالنا ) ، ففيه قولان : أحدُهما أنّه استعاذة من الأعمال السّيِّئة الّتي قد وُجدت ، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشّرِّ المعدوم الّذي لم يوجد ، و من الشّرّ الموجود ، فطلبَ دفعَ الأوّل و رفعَ الثّاني ، و القولُ الثّاني أنّ سيّئات الأعمال هي عقوباتها و موجباتها السّيّئة الّتي تسوءُ صاحبَها ، و على هذا يكون من استعاذة الدّفع أيضًا دفعُ المسبّب ، و الأوّلُ دفعُ السّبب ، فيكون قد استعاذ من حصول الألم و أسبابه ، و على الأوّل يكون إضافة السّيّئات إلى الأعمال من باب إضافة النّوع إلى جنسه ؛ فإنّ الأعمال جنسٌ و سيّئاتها نوعٌ منها ، و على الثّاني يكونُ من باب إضافة المسبّب إلى سببه ، و المعلول إلى علّته ، كأنّه قال : من عقوبة عملي ، و القولان محتملان ، فتأمّل أيّهما أليقُ بالحديث و أولى به ؛ فإنّ مع كلّ واحدٍ منهما نوعًا من التّرجيح ، فيترجّح الأوّلُ بأنّ منشأَ الأعمال السّيّئة من شرّ النّفس ، فشرُّ النّفس يولِّد الأعمالَ السّيّئة ، فاستعاذ من صفة النّفس و من الأعمال التي تحدثُ عن تلك الصّفة ، و هذان جماع الشّرِّ وأسبابُ كلّ ألمٍ ، فمتى عوفي منها عوفي من الشّرّ بحذافيره ، و يترجّح الثّاني بأنّ سيّئات الأعمال هي العقوباتُ الّتي تسوء العاملَ ، و أسبابها شرُّ النّفس ، فاستعاذ من العقوباتِ والآلامِ و أسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذةُ من أحدهما تستلزم الاستعاذةَ من الآخر ” . ثمّ قال : ” و لمّا كان الشّرّ له سببٌ هو مصدرُه ، و له موردٌ و منتهى ، و كان السّبب إمّا من ذات العبد ، و إمّا من خارجه ، و موردُه و منتهاهُ إمّا نفسه ، و إمّا غيرُه ، كان هنا أربعةُ أمورٍ:
شرٌّ مصدره من نفسه ، و يعود على نفسه تارةً ، و على غيره أخرى ، و شرٌّ مصدره من غيره ، و هو السّببُ فيه و يعود على نفسه تارة ، و على غيره أخرى ، جمع النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم هذه المقامات الأربعة في الدّعاء الّذي علّمه الصّديقَ أن يقوله إذا أصبح و إذا أمسى و إذا أخذ مضجعه : ( اللهمّ فاطرَ السّموات و الأرض ، عالمَ الغيب و الشّهادة ، ربَّ كلِّ شيءٍ و مليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ ، أعوذ بك من شرّ نفسي و شرّ الشّيطان و شِركه ، و أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم ) (2) ، فذكر مصدري الشّرّ و هما النّفس و الشّيطان ، و ذكر مورديه و نهايتيه ، و هما عَودُه على النّفس أو على أخيه المسلم ، فجمع الحديثُ مصادر الشّرّ و موارده في أوجز لفظٍ و أخصره و أجمعه و أبينه ” .
و أمّا من السّنّة فقد كان النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم حريصًا على ألاّ يستبدل أصحابه رضي الله عنهم حرفًا من أدعيتهم بحرف من أدعيته ، و هم من هم ، ففي الصّحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : ” إِذا أتيتَ مَضجَعَكَ فتَوَضَّأْ وُضوءَكَ للصّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِع على شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثمَّ قُلْ : اللّهمَّ أَسْلمتُ وَجهي إِليكَ ، و فَوَّضْتُ أمري إِليكَ ، و أَلجَأتُ ظَهرِي إِليكَ ، رَغبةً و رهبةً إِليكَ ، لا مَلْجَأ و لا مَنْجى منكَ إِلاّ إِليكَ ، اللّهمَّ آمنتُ بكِتابكَ الذي أنْزَلتَ ، و بِنَبِيِّكَ الّذي أَرسلتَ ، فإِنْ متَّ مِن لَيلَتِكَ فأنتَ على الفِطْرةِ ، و اجعلهنَّ آخِرَ ما تتكلّمُ به ، قال : فردَّدْتُها على النبيِّ صلّى الله عليه و سلّم ، فلمّا بَلغتُ : اللّهمَّ آمنتُ بكتابِكَ الّذي أنزلتَ ، قلتُ : وَ رسولِكَ ، قال : لا ! و نبيِّكَ الذي أرسلتَ ” .
و ما دمنا في باب بيان ما في الأدعية المأثورة من كمالٍ ، فإنّني أحببت أن أتحف القارئ بما في هذا الدّعاء النّبويّ من المعاني العالية و القواعد الغالية ، فقد حاول بعض أهل العلم استنباطَها ، كلٌّ بما فتح الله عليه ، منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ في ” فتح الباري ” ( 11/110-112 ) ، و الكِرماني في ” الكواكب الدّراري شرح صحيح البخاري ” ( 3/106-109 ) ، و ابن بطّال في ” شرح صحيح البخاري ” ( 1/365 ) ، و أبو العبّاس أحمد القرطبي في ” المفهِم لما أشكلَ من تلخيص كتاب مسلم ” ( 7/37 ) ، و قد تلخّص من أقوالهم من الفوائد ما يأتي :
1 - في الجمع بين الوُضوء و هذا الدّعاء إشارةٌ إلى الجمع بين الطّهارتين : البدنيّة و القلبيّة ؛ فالوضوء للطّهارة البدنيّة ، و الذّكر للطّهارة القلبيّة ، بل هو خير ما تُطهَّرُ به القلوب ، قال الله تعالى : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ﴾ ( الرّعد : 28 ) ، قال التّرمذي عقب روايته الحديث برقم ( 3574 ) : ” و لا نعلم في شيءٍ من الرّوايات ذكرَ الوضوء إلاّ في هذا الحديث ” ، قلت : لعلّ ذلك راجعٌ إلى هذه المناسبة اللّطيفة ، و قد أشار إلى ذلك ابنُ حجر .
2 – لمّا كان التّوحيدُ أفضل الذّكر فقد جمع هذا الدّعاء أصول الإيمان السّتّة ، كما نبّه عليه الكِرماني ، و هي الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شرّه ، وهذا تفصيله المختصر :
- فالإيمان بالله واضحٌ من النّداء : ” اللهمّ ” .
- و الإيمان بالكتب في قوله : ” آمنتُ بكتابك ” .
- و الإيمان بالملائكة في قوله : “ الّذي أنزلتَ ” ؛ لأنّ الملَك هو الّذي ينزل بكلام الله كما هو معلومٌ ، قال تعالى : ﴿ وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ﴾ ( الشّعراء : 192-193 ) .
- و الإيمان بالرّسل في قوله : ” و نبيّك الّذي أرسلتَ ” ، و يظهرُ هنا فائدة عدم تبديل لفظة ( نبيّك ) بلفظة ( رسولك ) كما وقع للبراء ؛ لأنّه – زيادةً على ما قيل في التّفريق بين النّبيّ و الرّسول – فإنّ الملَك لا يدخل تحت اسم النّبيّ ، لكنّه يدخل تحت اسم الرّسول ، كما جاء في التّنزيل كثيرًا ، منه قوله تعالى : ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ ( الحجّ : 75 ) ، قاله ابنُ بطّال .
- و الإيمان باليوم الآخر في قوله : ” رغبةً و رهبةً إليك ” ، فالرّغبة إلى الجنّة و الثّواب ، و الرّهبة من النّار و العقاب .
- و الإيمان بالقدر في قوله : ” لا ملجأَ و لا منجى منك إلاّ إليك ” ، نبّه على هذين الكِرماني .
3 – في الحديث إسلام الظّاهر والباطن لله ، أي الخلوص من الكفر و النّفاق ؛ و ذلك في قوله : ” اللّهمّ أسلمتُ وجهي إليكَ ” ، و في روايةٍ عند البخاري : ( 7488 ) : ” اللّهمّ أسلمتُ نفسي إليك ، و وجّهتُ وجهي إليك ” ، فهما على هذا جملتان ، وقد جعل بعض أهل العلم النّفس هنا على معنى الذّات ، و الوجه على معنى القصد والنيّة ؛ كما قيل :


أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه ….. ربَّ العباد إليه الوجهُ و العملُ
يقال : أيَّ وجهٍ تريد ؟ أي أيَّ وِجهةٍ تقصد ؟ و عَكَسَه بعضهم فجعل إسلام النّفس لانقياد الباطن ، وتوجيه الوجه لانقياد الظّاهر ، انظر ” الفتح ” في الموضع المشار إليه و ” أضواء البيان ” للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي ( 1/420 ) ، و إن كان الخلاف هنا سهلاً ، فلعلّ القولَ الأخير هو الأقرب و قد مال إليه الكِرماني ؛ لأنّ الجملتين وردتا على سبيل التّقابل و الاقتران كما أشار إليه القرطبي ، بخلاف لو تفرّقتا ، فإنّه يأخذ كلٌّ منهما معنى الآخر ؛ على قاعدة : إذا اجتمعا افترقا ، و إذا افترقا اجتمعا و الله أعلم ، لكن يستخلص من هذه الفائدة أنّ في الدّعاء بهذين اللّفظين إيذانًا بتسليم المرء نفسَه كلّها لله ، و هذا هو معنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، فقد قال ابنُ تيمية في ” مجموع الفتاوى ” ( 10/149 ) : ” العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنة و الظّاهرة ” .
4 – في الحديث إشارة إلى التوكّل على الله ، و للتوكّل ركنان : الحسّ و المعنى ، فتفويض الأمر المعنويّ لله في قوله : ” و فوّضتُ أمري إليكَ ” ، و تفويض الحسّي في قوله : ” و ألجأتُ ظهري إليك ” ، و خصّه بالظّهر ؛ لأنّ العادة جرت أنّ الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه ، ففيه معنى : اعتمدت عليك في أموري كلّها ، كما في ” الفتح ” ، وهذا هو معنى قوله سبحانه :﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ .
5- في الحديث أركان العبادة الثّلاثة : الرّجاء و الخوف و الحبّ ، فأمّا الرّجاء ففي قوله : “رغبةً ” ، و أمّا الخوف ففي قوله : ” رهبةً ” ، و أمّا الحبّ ففي قوله : ” لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك ” ؛ فإنّه لا يُلجأ إلاّ إلى محبوبٍ ، لا سيما و أنّه لا يفرُّ مؤمنٌ من الله إلاّ إليه .


6 – في اشتمال هذا الذّكر على كلّ ما يجب الإيمان به ، و على إسلام الظّاهر و الباطن لله ، و تفويض الأمر الحسّّي و المعنويّ له ، تفسيرٌ لقوله صلّى الله عليه و سلّم فيه : “ فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة ” ؛ فإنّ الفطرة هي الدّين الإسلاميّ .
هذا نموذجٌ حديثيٌّ من الأذكار المأثورة ، و ذاك نموذجٌ قرآنيٌّ ، فانظر إلى معانيها الشّريفة الّتي اشتملت عليها ، و لئن اجتمعت الإنس و الجنُّ على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ، مع أنّ ما خفي علينا من المعاني المستنبطة و الأصول الجامعة أكثر! ولذلك أحبّ أن أنقل هنا و في هذا المعنى كلمةً للمهلّب نقلها عنه ابن بطّال في ” شرح صحيح البخاري ” ( 1/365 ) أنّه قال : ” إنّما لم تُبدّل ألفاظه عليه السّلام ؛ لأنّها ينابيع الحكمة و جوامع الكلم ، فلو جُوِّز أن يُعبّر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النّهاية في البلاغة الّتي أُعطيها عليه السّلام ” ، و قال ابنُ تيمية في ” مجموع الفتاوى ” ( 22/525 ) : ” و من أشدّ الناس عيبًا من يتّخذ حزبًا ليس بمأثورٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و إن كان حزبًا لبعض المشايخ ، و يدع الأحزاب النّبويّة الّتي كان يقولها سيّد بني آدم و إمام الخلق و حجّة الله على عباده ! ” .
و من أعظم فوائد هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم منع البراء من أن يغيّر لفظًا واحدًا من ألفاظ دعائه هذا ، مع أنّ التّغيير كان بين لفظتين قريبتي المعنى ، فقد قال البراء : قلت : و رسولك الّذي أرسلت ، فاعترض عليه الرّسول صلّى الله عليه و سلّم و قال له : “ لا ! و نبيّك الّذي أرسلت ” ، فكيف يجترئ أحدٌ بعد هذا ليخترع للنّاس الأذكار ؟!!
و كذلك الشّأن فيما رَتَّب الشّارع الحكيم ثوابًا ما على عددٍ مخصوصٍ من الذّكر ، قال ابنُ حجَر في ” الفتح ” ( 2/330 ) و هو يتحدّث عن التّسبيح بعد الصّلاة : ” و استُنبِط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرةٌ ، و إلاّ لكان يمكن أن يُقال لهم : أضيفوا لها التّهليل ثلاثًا و ثلاثين ، وقد كان بعض العلماء يقول : إنّ الأعداد الواردة كالذّكر عقب الصّلوات إذا رُتّب عليها ثوابٌ مخصوصٌ فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثّواب المخصوص ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمةٌ وخاصّيّةٌ تفوت بمجاوزة ذلك العدد … و قد مثّله بعض العلماء بالدّواء يكون مثلا فيه أوقِيَّة سكّر ، فلو زيد فيه أوقيّةٌ أخرى لتخلّف الانتفاع به ، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدّواء ، ثمّ استعمل من السّكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلّف الانتفاع ، و يؤيّد ذلك أنّ الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلٍّ منها عددٌ مخصوصٌ مع طلب الإتيان بجميعها متواليةً لم تحسن الزّيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة ؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمةٌ خاصّة تفوت بفواتها ، و الله أعلم ” .
و قد نبّه أهل العلم على ضرورة القناعة بالألفاظ النّبويّة الواردة في الأذكار ؛ لأنّها شريعةٌ لنا و استدلّوا زيادةً على ما مضى بما رواه مسلم (2137 ) عن سمرةَ بن جُندب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : ” أحبّ الكلام إلى الله أربعٌ : سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ ” ، و موضع الشّاهد من الحديث هو قوله صلّى الله عليه وسلّم : ” لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ ” ، فدلّ بمنطوقه على التّقيّد بالكلام الّذي يحبّه الله من غير زيادةِ لفظةٍ عليه و لا نقصانٍ إلاّ ما ورد به الدّليل ؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم أخبر أنّ الله يحبّ هذه الكلمات بعينها ، و المؤمن لا يختار لنفسه غير ما اختار الله له و رسوله ؛ لأنّ الله يقول : ﴿ وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾( الأحزاب : 36 ) ، قال ابنُ كثير في تفسيرها : ” فهذه الآية عامّةٌ في جميع الأمور ، و ذلك أنّه إذا حكم الله و رسوله بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته ، و لا اختيارَ لأحدٍ هنا ، و لا رأيَ و لا قولَ ” ، كما دلّ بمنطوقه أيضًا على أن التّقيّد بترتيب هذه الكلمات خاصّةً غيرُ مطلوب ، و دلّ بمفهومه على أن التّقيّد بترتيب الأذكار الأخرى هو الأصل الّذي جرى عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عيه و سلّم ، و قد مرّ عنهم شيءٌ من ذلك ، و لمّا علم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم منهم ذلك لشدّة اتّباعهم للسّنّة و وقوفهم عند حرفية اللّفظ النّبويّ ، بيّن لهم أنّ ترتيب جمل هذه الألفاظ الخاصّة بعضِها على بعضٍ ليس أمرًا مطلوبًا فاستثناه و نفى الضّرر عمّن لا يرتّبها ، الأمر الّذي يدلّ على أنّ التّقيّد بالألفاظ النّبويّة و أعدادها و ترتيبها كما جاءت هو جادّة أهل الاتّباع الّذين يرجون القبول عند الله .
و أمّا دعاء المرء لنفسه بما شاء من حاجاته الّتي لا تكاد تنحصر فلا شكّ في جوازه ما لم يصحبه محظورٌ شرعيٌّ ؛ لأنّ الله قال : ﴿ وَ قَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ( غافر : 60 ) ، و بشرط أن لا يجعل ما جرّبه من أدعيةٍ مخترعة سنّةً لنفسه و لا لغيره ، و لو وجد فيها صاحبُها نوعَ استجابةٍ و تأثيرٍ ؛ لأنّ التّجربة ليست من مصادر الشّريعة ، و لا يجوز أن يقال : هذا دعاءٌ مجرّبٌ بُغيةَ ترتيبه للنّاس ؛ لأنّ الله لم يأذن لأحدٍ أن يشرَع لأحدٍ بعد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و قد قال : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ منَ ٱلدينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ ﴾ ( الشورى : 21 ) ، و للقاضي عياض كلمةٌ عظيمةٌ في هذا المعنى ، نقلها عنه ابنُ علاّن في ” شرح الأذكار ” ( 1/17 ) أنّه قال : ” أذن الله في دعائه ، و علّم الدّعاء في كتابه لخليقته ، وعلّم النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم الدّعاء لأمّته ، و اجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلم بالتّوحيد ، و العلم باللّغة ، و النّصيحة للأمّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدل عن دعائه صلّى الله عليه و سلّم ، و قد احتال الشّيطان للنّاس من هذا المقام ، فقيّض لهم قوم سوءٍ يخترعون لهم الأدعية ، يشتغلون بها عن الاقتداء بالنّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و أشدّ ما في الإحالة أنّهم ينسبونها إلى الأنبياء و الصّالحين ، فيقولون : دعاء نوح ! دعاء يونس ! دعاء أبي بكر ! فاتّقوا الله في أنفسكم ، لا تشتغلوا من الحديث إلاّ الصّحيح ” .
و بعدُ ، فهذه عبرةٌ للمعرضين عن الألفاظ النّبويّة ، المتوسّعين في ابتداع الأذكار و الأدعية ، المفتونين بالألفاظ البشريّة ، لا سيما ما ثُرثِرَ فيه بزخرفٍ من السّجع ، كما أنّها تحذيرٌ شديدٌ لأولئك الّذين يستغلّون جهل العوامّ وحبّهم للذّكر ليبيعوا لهم الأدعية ؛ كي تملأ لهم الأوعية ، والسّعيد من اتّبع السّنّة ، وأيقنَ أنّها خير ما تُعبّد به الإنسُ و الجِنّة ، و قد كان خيرة هذه الأمة أيقظ النّاس لاتّباع الأذكار النّبويّة كما نطق بها المصطفى صلّى الله عليه و سلّم ، فعن نافع أنّ رجلاً عطس إلى جنب ابن عمرَ ، فقال : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، قال ابن عمر : و أنا أقول : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، و ليس هكذا علّمَنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، علّمَنا أن نقول : الحمد لله على كلّ حالٍ ” رواه التّرمذيُّ ( 2738 ) ، وصحّحه الألبانيُّ فيه .
و أمّا كون أدعية البشر لا تسلم من النّقص ، فإنّني أمثّل له بمثالٍ ماتعٍ و مُقنعٍ ، رواه مسلم ( 2688 ) عن أنسٍ رضي الله عنه ” أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفَرْخِ ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسألُه إيّاه ؟ قال : نعم ! كنتُ أقول : اللّهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه ! أفلا قلتَ : اللّهمّ آتنا في الدّنيا حسنةً و في الآخرة حسنةً ، وقِنا عذاب النّار ، قال : فدعا الله له فشفاه ” .
فهذا صحابيٌّ كاد يُهلك نفسَه في الدّنيا حين اختار هذا الدّعاء الّذي ظاهره خيرٌ ؛ لأنّه يدلّ على الخشية من الله ، لكن من ذا الّذي يُطيق عذاب الله ؟ !فإذا كان الصّحابيّ – الذي كان مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم – عُرضةً للخطأ في اختيار الأدعية من عند نفسه ، فكيف بمن دونه ؟! و الله العاصم .
____________________
(1) : أخرجه أهل السّنن ، وصحّحه الألباني في ” خطبة الحاجة ” .
(2) : أخرجه التّرمذي ( 3529 ) و الحاكم ( 1/513 ) و صحّحاه ، وانظر ” السّلسلة الصّحيحة ” للألباني ( 2763 ) .

من كلّ سورة فائدة ” للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله
الله يثبتك على طاعة الله