تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : منزلة السنة النبوية.. متجدد


بلعاوي
21-03-2011, 04:03 AM
منزلة السنة النبوية


الحمد لله أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأقام بهما على العباد الحجة، وضمن فيهما السداد والعصمة، فمن اتبع فقد اهتدى، ومن أعرض فقد ضلّ وغوى.
وأصلِّي وأسلِّم وأبارك على عبد الله ورسوله الصادق الأمين، نبينا محمد المرسل رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فإن السنة النبوية المطهرة تمثِّل - ولا شك - إلى جانب القرآن الكريم أسس الدين الإسلامي وقاعدته الأساسية، التي لا يستقيم للدين أمر، ولا فهم، ولا فقه دونها، فبدون السنة النبوية المطهرة تضيع السيرة، وتفقد القدوة، وتنقطع الرسالة، وتبهم معاني الكتاب، ويقضى على فقه الدين.
وإذا كان الأمر كذلك فإن البحث في السنة وحجّيّتها ومنزلتها ومكانتها يعدّ أمرًا بالغ الأهمية في بنية الفكر الإسلامي، وتكوين العقلية المميزة للأمة الإسلامية، خصوصًا إذا ما تصوّرنا حجم الهجمة الشرسة وما ينصبه أعداء الأمة في الداخل والخارج من مكائد، وما يراد للأمة من مسخ لشخصيتها، ومحاولات لا تتوقف يراد بها صرف الناس وإعراضهم عن هدي النبوة، والتخلّص من الأحكام الثابتة بها، والبعد عن أضوائها وأنوارها، مرةً بادعاء عدم حجية بعض أنواعها، ومرةً بزعم أن ما ورد فيها - غير مبين للكتاب - فإن الناس ليسوا مطالبين به، ومرةً بالطعن بِحَمَلَتِهَا الأَوَّلِين ورواتها الأقدمين، ونفي العدالة عنهم، ومرةً بادعاء أنها - أي السنة - لا تعدو أن تكون توجيهات، ونصائح، وآداباً غير ملزمة للمسلم أن يعمل بها، وله أن يتخلى عنها، مستدلين لمذاهبهم الفاسدة، وآرائهم الخبيثة الكاسدة بأوهى المقالات، وأضعف الشبهات، وأتفه الخيالات.
وبعضهم يزعم: أن ما جاءت به السنة لا ينبغي أن يعمل به إلا بعد معرفة سائر ظروف وروده، وأسباب ظهوره، وسائر ما يمكن أن يكون له أثر في دلالته عندهم، وأن السنة إذا دلت على حكم لم يدل القرآن عليه لم يؤخذ بها، وأن الحديث يجب أن يعرض على عقولهم الجامدة، فإن تلقته تلك العقول القاصرة، والأفئدة المريضة بالقبول صحّ وعمل به، وإن أغلقت عقولهم الكليلة دونه أبوابها فليترك وليهمل.
لقد نسي هؤلاء الحمقى - أو تناسوا - أن سنة رسول الله أصل دلّ عليه كتاب الله, وأن الأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ بل يحكّمه المؤمنون ويقبلونه، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما دل عليه، ويسلِّمون له تسليمًا تامًا، وينقادون لدلالته انقيادًا كاملاً"(1).
إن هؤلاء بموقفهم هذا يظلمون أنفسهم، ويظلمون الناس؛ لأنهم خالفوا وشرعوا المخالفة، إذ بدل أن يكونوا محكومين جعلوا من أنفسهم حاكمين، بل ومشرعين؛ لأنهم شرعوا لأنفسهم - حين رفضوا السنة أو شككوا فيها - رفض الدين، وقبول إيحاء الشيطان الرجيم، وهذا هو الضلال المبين.
قال تعالى:
((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا)) [الأحزاب:36].
وقال تعالى:
(( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا))[ النساء:65].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)(2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلّتت منهم فلم يعوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا"(3).
لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟.
إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل على حفظ كيان الإسلام، وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام(4).
إذ السنـة بما تضمنته من أقوال وأفعال وتقريرات وصفـات للنبي - صلى الله عليه وسـلم - ترسـم " المنهاج التفصيلي" للحياة الإسلامية: حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، في الدولة المسلمة.
وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة، والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بدّ منها، فإن السنة تفصِّل ما أجمله القرآن الكريم، وتبيِّن ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته.
ومن هنا نجد في السنة تفصيلات الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والحياة البرزخية مما يتعرض له المكلفون بعد الموت في قبورهم من سؤال وامتحان، ونعيم أو عذاب، وأهوال البعث والنشور، والموقف في الشفاعة العظمى، والحساب الإلهي، وما يتبعه من أخذ الصحف، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وإقامة الصراط، وما أعد الله في الجنة لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أعدّ في النار لمن عصاه من ألوان العذاب الحسّي والمعنوي، كل هذا قد فصّلته السنة حتى كأنه رأي عين.
ونجد في السنة تفصيلات العبادات الشعائرية التي تمثِّل جوهر التدين العملي كالعبادات الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج، سواء ما كان منها فرضًا لازمًا كالصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة من كل أسبوع، والزكاة المفروضة كل حول أو كل حصاد، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت مرةً في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً... وما كان منها من باب التطوع.
فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة، نجد السنة حافلةً بكتبها وأبوابها الجَمَّة، من مقدماتها: الطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، ومسح الخفين... الخ... ولواحقها: الأذان، والإقامة، والجماعة، والإمامة، وبيان مواقيتها، وأعدادها، وكيفيتها، وأركانها، وسننها ومبطلاتها، وبيان أنواعها مما هو فرض، وما هو نفل مؤكد كالسنن الرواتب، والوتر، وما ليس كذلك كقيام الليل وصلاة الضحى، وما يصلى في جماعة وما ليس كذلك، وما يؤدى مرةً أو مرتين في السنة كصلاة العيدين، وما يؤدى بأسباب عادية كالكسوف والاستسقاء، أو خاصةً كالاستخارة.
وإذا جئنا إلى الزكاة نجد بيان الأموال التي تجب فيها، ونُصبها، ومقادير الواجب في كل منها، ومتى تجب، ولمن تجب؟.
ومثل ذلك يقال في الصيام والحج والعمرة، فالسنة هي التي فصّلت أحكامها تفصيلاً.
وهذه العبادات قد احتلّت من كتب السنة حيزًا كبيرًا، حتى إنها في كتاب مثل: " الجامع الصحيح للبخاري" تقدّر بنحو الربع.
فإذا أضفنا إليها ما يتعلق بالأذكار والدعوات وتلاوة القرآن - وهي لا شك جزء من العبادات - تبيّن لنا مقدار احتفال السنة بها، وقد ختم البخاري جامعه بحديث منها(5).
ونجد في السنة توجيهات مفصلة للأخلاق الإسلامية، التي بعث الله رسوله ليتمِّمَها وهي تشمل الأخلاق الإنسانية التي لا تقوم الحياة الفاضلة إلا بها، وقد اعتبرتها السنة من شعب الإيمان، ومن فضائل المؤمنين، كما اعتبرت أضدادها من آيات النفاق، ورذائل المنافقين، وذلك كالصدق والأمانة، والسخاء والشجاعة، والوفاء والحياء، والرفق والرحمة، والعدل والإحسان، والتواضع والصبر، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، وبِرّ الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، ورعاية اليتيم، والمسكين، وابن السبيل.
كما تشمل ما نسمِّيه " الأخلاق الربانية" التي هي قوام الحياة الروحية كمحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والورع عن المحارم والزهد فيها عند الناس، والرغبة فيما عند الله... إلى غير ذلك من الأخلاق والمقامات التي عني بها الصادقون من رجال التصوف، حتى قالوا: التصوف هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، فقد زاد عليك في التصوف.
ونجد في السنة كذلك تفصيلات الآداب الإسلامية، التي تتصل بالحياة اليومية للإنسان المسلم، ويتكوّن منها الذوق المشترك، والأدب المشترك للأمة الإسلامية.
وذلك مثل أدب الأكل والشرب، والجلوس والمشي، والتحية والسلام، والزيارة والاستئذان، والنوم واليقظة، واللباس والزينة، والكلام والصمت، والاجتماع والافتراق.
فالمسلم عندما يأكل أو يشرب يُسمِّي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، ويأكل مما يليه، ويقتصد في أكله، ويحمد الله إذا فرغ من طعامه.
وهكذا نجد السنة النبوية تضع للمسلم مجموعةً مفصّلةً من الآداب المحدَّدة في سلوكه اليومي، تنشأ منها تقاليد مشتركة، تميِّز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، كما تجعل للفرد المسلم شخصية مستقلة متميزة في مظهرها ومخبرها تستعصي على الذوبان في غيرها.
ونجد في السنة كذلك تفصيلاتٍ لتكوين الحياة الأسرية على أساس مكين، وتنظيم علاقاتها، وضبط سيرها، وحمايتها من عوامل التفكك والانهيار، والتوجيه إلى الوسائل اللازمة للمحافظة عليها، وما يلزم كِلا الطرفين عند تعذر الوِفاق، ووقوع الطلاق، فنجد في السُنّة عنايةً بالغةً بحسن اختيار الزوج أو الزوجة، والخطبة وأحكامها، والزواج وآدابه، وحقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والنفقات، وحق الأولاد على والديهم، وحق الوالدين على أولادهم، وحق ذوي القربى من المحارم والعصبات... إلى غير ذلك مما يقوم عليه " فقه الأسرة"، أو ما يسمى " الأحوال الشخصية".
ونجد في السنة كذلك أحكامًا وفيرةً تتعلق بالمعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم وبعض، مثل أحكام البيع والشراء، والهبة والقرض، والمشاركة والمضاربة، والإجارة والإعارة، والكفالة والحوالة، والرهن والشفعة، والوقف والوصية، والحدود والقصاص والشهادات وغيرها، مما استند إليه فقه " المعاملات".
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الحكّام والمحكومين، في الشؤون الإدارية والمالية والقضائية وغيرها، مما استمدت منه كتب " السياسة الشرعية"، وكتب " الأموال"، و"الخراج" ونحوها.
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرسم الإطار لعلاقة المسلمين بغير المسلمين في السِّلم وفي الحرب. وهذا ما يقوم عليه فقه " السير" أو " الجهاد"(6).
وللإمام ابن القيم كلام نفيس رائع عن الهدي النبوي الذي جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " وتُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر للأمة منه علمًا، وعلَّمَهم كل شيء حتى آداب التخلي - أي آداب قضاء الحاجة - وآداب الجماع، والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأي عين، وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم، وما جرى عليهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر، دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب، للروح والبدن، ما لم يُعرِّف به نبي غيره، وكذلك عرَّفهم من أدلة التوحيد، والنبوة، والمعاد، والردّ على جميع أهل الكفر والضلال، وعرَّفهم من مكايد الحروب، ولقاء العدو، وطرق النصر والظفر، ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته، لم يقم لهم عدو أبدًا - أي لم يثبت أمامهم عدو - وكذلك عرَّفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها، وما يتحرزون به من مكره وكيده، وما يدفعون به شره عن أنفسهم ما لا مزيد عليه.
وبالجملة: فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بأكمله، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فشريعته كاملة، ما طرق العالمَ شريعة أكمل منها"(7).

الهوامش:
(1) حجية السنة، ص: 13-14.
(2) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم: (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه...، رقم: (1401).
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم، رقم: (1924، 2003، 2005)، اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد, (1/ 123).
(4) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، ص: 87.
(5) هو حديث: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" عن أبي هريرة.
(6) انظر: المدخل إلى دراسة السنة، ص: 63- 67.
(7) إعلام الموقعين، (4/ 375).

بلعاوي
21-03-2011, 04:08 AM
التمسك بالسنة دين
1




وإذا كانت السنة النبوية بتلك السعة وهذا الشمول، فإن التمسك بها تمسك بالدين، سواء تعلق الأمر بالأهم منها أو المهم، لأن الكل داخل في مطلق الاتباع وشمول الاقتداء والتأسي.
قال تعالى:
((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)) [آل عمران:31].
وقال تعالى:
((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا)) [الأحزاب:21].
يقول الغزالي: " اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه، لستُ أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط - لأنه لا وجهَ لإهمال السنن الواردة في غيرها- بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع المطلق، كما قال تعالى:
((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)) [آل عمران:31].
وقال تعالى:
((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))(1) [الحشر:7].
فهل - بعد ذلك - يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال السنة، فيقول: هذا من قبيل العادات، فلا معنى للاتباع فيه؟.
إننا نعلم أن من السنن ما هو مؤكد كان يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، ومنه ما هو غير ذلك مما كان يفعله الرسول في بعض الأوقات.
ومن هذه السنة ما له قيمة كبيرة وثواب عظيم كأداء المسلم للصلوات في جماعة، ومنه ما له قيمة صغيرة كالأكل باليد اليمنى، وغير ذلك من تفصيلات الحياة التي كان يمارسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لقد رأى البعض أن التمسك بتلك الأشياء الصغيرة من السنن تشدد لا مبرر له, وحجر على العقول الإنسانية، إذ لا يدرى ما فائدة أن يأكل إنسان باليد اليمنى ويترك اليسرى؟ خاصةً وأن ما يسمونه حضارة يُملِي على الناس أن يستعملوا كلتا اليدين إحداهما تمسك السكين والأخرى تمسك الشوكة.
وهؤلاء من الذين يريدون أن يخضعوا كل شيء لموازين عقولهم حتى أمور الدين وما جاء به من أحكام وأخلاق وسلوك. هذا في الوقت الذي يعترفون فيه بأن هناك حدودًا للعقل لم يتخطها بعد، وفي الوقت الذي يدرك فيه كل عاقل أنه ليس هناك في الحقيقة عقل مجرد وإنما يتأثر عقل أي إنسان بالبيئة التي ينشأ فيها، والثقافة التي يتثقفها، والعقائد التي يدين بها ويتعصَّب لها.
ومن هنا إذا حكَّم إنسانٌ ما عقله في العقيدة وفي الأمور الدينية فإنه يخشى عليه من أن يصدر أحكامًا خاطئةً؛ لأن العقائد الدينية ليست نابعةً من بيئة أو خاضعة لثقافة أو صادرة من عقل بشري، وإنما هي فوق ذلك ومن قوة عليا.
ومن أجل هذه الحقيقة واحترامًا من الإسلام للعقل البشري كانت هناك الحرية المطلقة في الدخول في الإسلام، وعلى أساس من الاقتناع الفكري والقلبي، أو على أساس التسليم: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ))[ البقرة:256].
ولكن بعد الدخول في الإسلام على المرء أن يخضع لتعاليمه، ومبادئه، وقوانينه، سواء أفهمها عقله وأدرك ما فيها من فوائد أم لا، وهذا هو المعقول وهي - بلا شك وفي اعتقاده إذا كان مسلمًا حقًا - صادرة من عليم خبير حكيم، يودع في طياتها كل ما يصلح عباده الذين خلقهم، فلِمَ إذن الاعتراض والافتراء بأن بعض أمور الدين التي جاءت من عند الله أو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى - غير معقولة أو غير مفيدة؟.
لكننا بعد أن نسلم بكل ما يأتي به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونمارسه سواء أكان هذا من الفروض الواجبة علينا أو من غيرها، فإننا حتمًا سنهتدي إلى الفوائد التي نجنيها من ممارستها؛ لأن الإسلام الذي جاء من عند الله لا يتناقض مع العقل أو الطبيعة البشرية التي خلقها الله - عزَّ وجلَّ - كذلك.
ولنفكر في تلك الفوائد التي يمكن أن تجنى من تمسكنا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وخاصةً ما ترك لاختيارنا وإرادتنا، نفعله أو لا نفعله ما كبر منه وما صغر، إننا نوافق بعض الباحثين فيما ذكروه من فوائد وأسباب ثلاثة لتمسكنا بالسنة(2).

السبب الأول:
" هو تمرين الإنسان بطريقة منظمة على أن يحيا دائمًا في حال من الوعي الداخلي، واليقظة الشديدة، وضبط النفس".
فالله تعالى قد ميّز الإنسان عن سائر المخلوقات بالإرادة الحرة، ولكن من الممكن أن تلغى هذه الإرادة إذا أسلم الإنسان نفسه لعادات وأعمال تصدر منه دون وعي ودون تفكير " فإن الأعمال والعادات التي تقع عفو الساعة تقوم في طريق التقدم الروحي للإنسان كأنها حجارة عثرة في طريق الجياد المتسابقة".
يجب إذن أن تظل هذه الإرادة حيةً نابضةً في الإنسان، ويجب أن تقلّ الأعمال عنده التي تصدر منه في غيبة هذه الإرادة " فكل شيء نفعله يجب أن يكون مقدورًا بإرادتنا وخاضعًا لمراقبتنا الروحية" حتى نُحقِّق ذواتنا.
والتمسك بالسنن غير المفروضة يعيننا على ذلك، إنها تحتاج إلى شيء من الجهد، وإلى شيء من المشقة في بعض الأحيان، وإلى كثير من التحدي، خاصةً في عصرنا الذي نعيش فيه، فالمحافظة على الصلاة في جماعة في أول الوقت فيه شيء من المشقة، وخاصةً إذا كانت هذه الصلاة هي صلاة الفجر. وصلوات النوافل التي تصاحب الفروض قبلاً أو بعدًا فيها شيء من الجهد في عصر كل ما فيه سريع ومشاغله كثيرة. والأكل باليد اليمنى فيه تحدٍ لما يسمّى بالتحضر في عصرنا، والذي يملي على بعض المجتمعات أن يأكل أفرادها بشوكة في يد، وسكين أو ملعقة في أخرى.
هو إذن يستعمل إرادته في كل هذه الأمور، يجددها، ويوقظها حتى لا تنام، أو تسلم قيادها لعادات وتقاليد تصدر دون وعي فتموت هذه الإرادة.
ثم ماذا تكون النتيجة عندما تموت؟... سيحتاج يومًا إلى هذه الإرادة في وجه كثير من صعوبات الحياة ومشاكلها فلا يجدها، ويومئذٍ لا تفيده كل وسائل الحضارة التي يملكها إنسان هذا العصر، وهذا هو السرّ في أننا نجد ظاهرة الهروب من الحياة تتجلى أوضح ما تكون على شكل الانتحار أو غيره, في البلاد التي امتلكت أسباب الحضارة ووسائل الرفاهية.
يقول محمد أسد: " قد لا يكون من المهم في ذاته أن نأكل بأيِّ اليدين ولكن إذا اعتبرنا التنظيم فمن أشدِّ الأمور أهمية أن تأتي أعمالنا مقدرة بنظام، وليس من السهل على الإطلاق أن يبقى الإنسان في تنبيه مستمر لمحاسبة النفس وضبطها، حتى ولو كانت فيه هاتان القوتان مثقفتين غاية التثقيف، إن كسل العقل لا يقل في حقيقته عن كسل الجسم، فإنك إذا سألت رجلاً تعود حياة القعود أن يسير مسافةً ما فإنه لا يسير غير قليل حتى يتعب، ويصبح غير قادر على أن يتابع مسيره، وليس هذا شأن من تعود في حياته كلها أن يمشي وَمُرِّنَ على ذلك، ثم لا يجد في هذا النوع من الجهد العضلي جهدًا على الإطلاق".
ثم يقول: " فإذا تحتم علينا أبدًا أن نخضع جميع ما نعمل وجميع ما نترك لتمييز عقلي معلوم، فإن مقدرتنا على ضبط النفس - واستعدادنا لذلك ينموان تدريجيًا، ثم يصبحان فينا طبيعةً ثانيةً، وفي كل يوم ما دام هذا التمرين مستمرًا - يتناقص كسلنا الأدبي حسب ذلك(3).
ولربما كان هذا هو السرّ في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحبذ أن يصلِّي الرجل صلاة النافلة في بيته؛ لأن هذا أدعى إلى تحريك عزيمته وإيقاظها، أما إذا صلاها في المسجد فإن الدواعي لها كثيرة، بحيث لا يمكنها أن تسهم في تربية الإرادة، من وجوده في المسجد، وصلاتها مع الفرض.
وحتى تؤتي السُنَّة ثمرتها في هذا المجال، فلا تصبح عادةً وعملاً آليًا يقوم به المسلم - دون وعي- من الواجب عليه أن يكون متيقظًا دائمًا وهو يقوم بها، وألا يحاول أن يؤديها كعمل شكلي لا روح فيه ولا فائدة منه، وإلا أصبحت كالرموز أو الطقوس تؤدى دون أن تسهم تثقيفًا في حياة المسلم. إن بعض المسلمين يدلكون أسنانهم بأصابعهم عند الدخول في الصلاة حتى يحافظوا على سنة السواك... لا،
" إن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب "(4). ولن يتحقق هذا إلا بالسواك، أما الأصابع في هذه الحالة فربما أدت إلى الضرر إن لم تكن شكلاً فقط، وليست فيها المشقة التي تربي الإرادة. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم- فيقول:
" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"(5). إذن فليرغم الإنسان نفسه وكسله إذا أراد أن يقتدي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا.
إن السنة - ليست كما يزعم النقاد من الخصوم من نتاج المرائين الظاهريين الجفاة؛ ولكنها نتاج رجال(6) ذوي عزيمة ولوذعية, وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كانوا من هذا الطراز الأول، إن وعيهم الدائم ويقظتهم الباطنة، وشعورهم بالتبعة في كل شيء- كانت هي الإعجاز في مقدرتهم وفي فوزهم التاريخي المدهش(7).

الهوامش:
(1) الأربعين في أصول الدين، نقلاً عن" حجية السنة"، ص:80-81.
(2) الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد، ترجمة الدكتور/ عمر فروخ - ط:4، بيروت، ص:104- 110.
(3) الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد، ترجمة الدكتور/ عمر فروخ - ط:4، بيروت، ص:105- 106.
(4) أخرجه أحمد في المسند (6/ 47، 62، 124).
(5) أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، رقم: (887)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، رقم: (42).
(6) أي: تمسك بها رجال.
(7) الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد، ترجمة الدكتور/ عمر فروخ - ط:4، بيروت، ص:106.

@ كريمة @
21-03-2011, 03:40 PM
الله يكرمك يااااااااااااااارب

بلعاوي
22-03-2011, 05:57 AM
الله يكرمك يااااااااااااااارب


بارك الله لكم
وجزاكم خير واثابكم اعلى عليين ..

بلعاوي
22-03-2011, 06:00 AM
التمسك بالسنة
2



السبب الثاني:



لتمسكنا بالسنة هو: أهميتها ونفعها الاجتماعي في حياة الأمة الإسلامية.
إن السنة توحِّد مشاعر الأفراد، وميولهم، وعواطفهم، بما فيها من أسباب ذلك. فهي تدعو إلى التراحم بين المسلمين، وحبّ بعضهم بعضًا، وتنتظمهم ككل في بعض الأمور؛ كصلاة الجماعة التي يقف فيها المؤمنون جميعًا على قدم المساواة على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم الاجتماعية.. , أوليسوا جميعًا في سلوكهم وأخلاقهم باتباعهم السنة يكونون كشخص واحد هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يقتدون به فيهما؟.
وإن بعض الأعمال الجماعية المادية التي نقتدي فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسهم في وحدة المسلمين الروحية والقلبية، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقيمت صلاة الجماعة يسوِّي الصفوف ويقول لهم: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(1).
أرأيت كيف ربط الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين وحدة الصفوف المادية، ووحدتهم الروحية والقلبية؟ وكذلك اختلافهم في هذا وذاك.
إن السنة عندئذٍ تجعل المجتمع متماسكًا مستقرًا في شكله، وتحول دون تطور العداء والنزاع؛ لأن جميع أفراده يرجعون إلى أساس واحد. وما دام هذا الأساس لا يحوم حوله ريب ما، فليس ثمة من حاجة ولا رغبة في تبديل التنظيم الاجتماعي الذي نتج عنه.
وإذا تحرز المجتمع على هذا النحو من اختلاف الميول والنزعات؛ لأنه بني على قواعد من الشرع الإلهي والاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يستطيع حينئذٍ أن يستغلّ جميع قواه في معالجة مسائل تسبغ عليه رفاهية حقيقية، مادية وعقلية.
أما إذا اختلف الأفراد في الميول والنزعات؛ لأن مشاربهم متعددة وتنشئتهم مختلفة، فإنهم لن يلتقوا على أرض الحب والتعاطف والمودة وتختلف النظرات الاجتماعية، كل يرى أن الحل الأمثل والحياة السعيدة هي ما يراها غيره، فتتعدد الأغراض الاجتماعية والمقاصد، وينشأ الناس على عادات مختلفة " وهذه العادات المختلفة إذا تبلورت بالمراس سنين طوالاً أصبحت حواجز بين الأفراد" ويسوء فهم بعض الناس لأغراض بعضهم الآخر ومقاصده. وهذا هو سِرُّ أكثر المنازعات الاجتماعية في كل مجتمع تتعدد فيه الأحزاب التي يحمل كل حزب فيها مبادئ ربما تتناقض مع مبادئ الآخر، وربما تطور الأمر، فيحكم حزب متعصب، فيحمل الناس حملاً؛ موافقيه ومخالفيه على الالتزام بهذه المبادئ، وينشأ الصراع الذي نشاهده في كثير من قطاعات عالمنا المعاصر.
أما " أولئك الذين يعدون أنفسهم مقيدين بشريعة القرآن الكريم" وبالتالي بأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم-، فإن أحوال المجتمع عندهم يجب أن يكون لها مظهر مستقر؛ لأنهم يرجعون بها إلى أساس مطلق"(2).

السبب الثالث:
في تمسكنا بالسنة؛ كبيرها وصغيرها، فرضها ونفلها، هو أنها الطريق إلى معرفة الإسلام مطبقًا في الحياة، إن في هذا النظام من العمل بالسنة يكون كل شيء في حياتنا اليومية مبنيًا على الاقتداء بما فعله الرسول، وهكذا نكون دائمًا إذا فعلنا أو تركنا كذلك مجبرين على أن نفكر بأعمال الرسول وأقواله المماثلة لأعمالنا هذه(3).
ولقد كانت حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تطبيقًا أمينًا لمبادئ الإسلام وتعاليمه، ألم يكن خلقه القرآن كما تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها-...؟ وهذا يدفعنا إلى أن نتعرف على دقائق حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم والوقوف على سيرته، فنتعرف على الإسلام من خلال السنة النظرية، ونطبقه من خلال الاقتداء عمليًا، وبهذا ندخل في نطاق رحمة الله عز وجل، ألم يرسل محمدًا رحمةً للعالمين؟.. وتصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في منهاج حياتنا اليومية بما فيها من صغير وكبير.
أما إذا أعرضنا عن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فستنشأ غربة بيننا وبينه، وبالتالي ستنشأ غربة بيننا وبين الإسلام الذي حمله ودعا إليه، وبشَّر به، وطبَّقه كما قلنا تطبيقًا أمينًا في حياته. وفي النهاية أو في البداية سنرتمي في أحضان ثقافات أخرى من صنع بشر ومفكرين آخرين أثبت الزمن أن عقولهم وفلسفاتهم ليست أهلاً لأن تقود الإنسان، وإنما يقوده خالقه بالالتزام بما جاء به نظرًا وعملاً محمد - صلى الله عليه وسلم - من عنده - عزَّ وجلَّ-.
ولعلنا بعد معرفة هذه الأسباب ندرك معقولية تمسكنا بكل ما صدر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وفائدته ، حتى الأكل باليد اليمنى الذي يسهم في تربية الوعي الإرادي عند المسلم متحديًا عادات عصره، كما يسهم في الامتزاج الاجتماعي عندما يكون الأفراد كلهم يأكلون بأيديهم اليمنى، وغير ذلك من السنة، ثم حمل للنفس على احترام الإسلام والتعرف على نبيه وعلى كل ما صدر عنه، فنتعرف على كل شيء في حياته، وبالتالي نتعرف على كل شيء في الإسلام نظرًا وعملاً(4).
وفقنا الله - عزَّ وجلَّ- إلى التمسك بالسنة، والعمل بالهدي النبوي الكريم.
وفي هذه الدراسة سنتحدث - إن شاء الله- عن السنة النبوية: تعريفها - مصدرها - حجيتها - رتبتها في التشريع- أنواعها من حيث دلالتها على الأحكام وغير ذلك من المباحث، لتتضح أهميتها، وتظهر مكانتها، وتتبين منزلتها؛ ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
والله نسأل التوفيق والسداد، وهدايتنا وكل العباد، ((سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)) [البقرة:32].


الهوامش:
(1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، رقم: (972).
(2) الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد، ترجمة الدكتور/ عمر فروخ - ط: 4، بيروت، ص: 108.
(3) المصدر السابق، ص: 109.
(4) انظر: المدخل إلى توثيق السنة، ص: 18-25.

بلعاوي
23-03-2011, 03:47 AM
كلمة في الاصطلاح والدلالة



أهمية إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية و المعاني الاصطلاحية.
إن الخلط في الدلالات وعدم معرفة الفوارق بين المعاني في اللغة وبينها في الاصطلاح أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي بأصحابه إلى أسوأ الأحكام، وأتعس النتائج، وهذا ما سنلاحظ بعضه في الصفحات التالية، ومن ثَمَّ يلزم بين يدي تعريفنا بالسنة معرفة الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية، وعليه فأقول:
قال أبو هلال العسكري:" الفرق بين الاسم العرفي والاسم الشرعي أن الاسم الشرعي ما نقل عن أصله في اللغة فسمي به فعل، أو حكم، حدث في الشرع نحو الصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر، والإيمان، والإسلام، وما يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجري قبل الشرع على أشياء، ثم جرت في الشرع على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها وصار استعمالها على الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال " الصلاة " اليوم في الدعاء مجاز، وكان هو الأصل.
والاسم العرفي ما نقل عن بابه بعرف الاستعمال نحو قولنا: (دابة)، وذلك أنه قد صار في العرف اسمًا لبعض ما يدب، وكان في الأصل اسمًا لجميعه.
وعند الفقهاء أنه إذا ورد عن الله – عزَّ وجلَّ - خطاب قد وقع في اللغة لشيء واستعمل في العرف لغيره، ووضع في الشرع لآخر، فالواجب حمله على ما وضع في الشرع؛ لأن ما وضع له في اللغة قد انتقل عنه وهو الأصل، فما استعمل فيه بالعرف أولى بذلك، وإذا كان الخطاب في العرف لشيء وفي اللغة بخلافه وجب حمله على العرف؛ لأنه أولى، كما أن اللفظ الشرعي يحمله على ما عدل عنه، و إذا حصل الكلام مستعملاً في الشريعة أولى على ما ذكر قبل، وجميع أسماء الشرع تحتاج إلى بيان نحو قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)(البقرة:43).
إذ قد عرف بدليل أنه أريد بها غير ما وضعت له في اللغة و ذلك على ضربين:
أحدهما: يراد به ما لم يوضع له البتة، نحو الصلاة و الزكاة.
والثاني: يراد به ما وضع له في اللغة لكنه قد جعل اسمًا في الشرع لما يقع منه على وجه مخصوص، أو يبلغ حداً مخصوصاً، فصار كأنه مستعمل في غير ما وضع له، وذلك نحو الصيام، و الوضوء، وما شاكله.(1)
وهذا كلام مهم، ولإيضاحه أكثر أقول:
الأسماء ثلاثة أنواع:
الأول: يعرف حده بالشرع مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.
الثاني: يعرف حده باللغة مثل: الشمس، القمر، الليل، النهار.
الثالث: يعرف حده بالعرف مثل: القبض.
والألفاظ الشرعية - وإن كانت عربية في الأصل - إلا أنه لا بد من معرفة المراد بها في الشرع، لأن الشرع قد نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معان بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك.
فالصلاة في أصل اللغة الدعاء، فجاء الشرع مخصصًا الصلاة بأقوال، و أفعال، وهيئات معينة.
والزكاة في أصل اللغة هي النماء والزيادة، فجاء الشرع مخصصاً معناها بما يدفع من حق معلوم لمستحقيه، باعتبار ذلك الدفع طريقاً للنماء والزيادة.
والصوم في أصل اللغة مطلق الإمساك، فجاء الشرع مخصصاً معناه بالامتناع عن أشياء معينة في أوقات معينة.
والحج في أصل اللغة القصد، فخصَّ الشرع ذلك القصد بأنه القصد لبيت الله الحرام لأداء أعمال معينة.
فالشرع إذاً لم ينقل تلك الألفاظ – و غيرها – عن معانيها اللغوية بالكلية، ولم يبق عليها كما هي في أصل اللغة، بل خصصت تخصيصاً شرعياً ببعض مواردها، كما أن عرف الناس يخصص بعض الألفاظ ببعض مواردها.(2)
وإذا أعرض المرء عن هذا المنهج في تعامله مع المصطلحات الشرعية ولم يع هذه الفروق فإنه يضل ضلالاً كبيراً، لذا لزم علينا أن نبين وجه الخلاف بين معنى (السنة) في اللغة وبين معناها في الاصطلاح، وهذا ما سنعرض له في الآتي.

السنة في اللغة
السنة في اللغة: مشتقة من الفعل (سن) بفتح السين المهملة وتشديد النون، أو من (سنن) وهذه المادة تفيد جريان الشيء واطراده في سهولة(3)، فهي تفيد أن الشيء تكرر حتى أصبح قاعدة.
ولها عدة معان:
1-السيرة المستمرة والطريقة المتبعة المعتادة سواء أكانت حسنة أم سيئة. وهذا المعنى للسنة هو الأصل والغالب، قال ابن الأثير: (قد تكرر في الحديث ذكر: (السنة) وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة..)(4)، وحسن الطريقة والسيرة أو سوؤها إنما يأتي على طريق الوصف والإضافة.
فمن الوصف قوله - صلى الله عليه وسلم -:
(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم من شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)(5).

ومن الإضافة تأخذ كلمة (سنة) المدح أو الذم حسب المضاف إليه. ففي قوله - صلى الله عليه وسلم -:
(.... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)(6) تكون السنة حسنة و محمودة.

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -:
(أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية.....)(7)

وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود و النصارى؟ قال: فمن)(8).
تكون السنة هنا سيئة ومذمومة.
وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه. وفي لسان العرب: سن عليه الماء: صبه، وقيل أرسله إرسالاً ليناً....
وسن الماء على وجهه: أي: صبه عليه صبا سهلاً، قال الجوهري: سننت الماء على وجهي، أي أرسلته إرسالاً من غير تفريق... وفي حديث بول الأعرابي في المسجد: (فدعا بدلو من ماء فسنه عليه)(9) أي: صبه، والسنّ: الصب في سهولة... وفي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند موته: (فسنوا عليّ التراب سنا)(10) أي: ضعوه وضعاً سهلاً.(11)
فشبهت العرب الطريقة المتبعة، والسيرة المستمرة بالشيء المصبوب، لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها * فأول راضٍ سنة من يسيرها(12)

وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم،
قال الله تعالى:
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) (الكهف:55).

وقال تعالى:
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) (الإسراء:77).

2-السنة بمعنى المثال المتبع والإمام المؤتم به , قال في اللسان: سنَّ فلان طريقاً من الخير يسُنّه: إذا ابتدأ أمراً من البر لم يعرفه قومه، فاستنوا به وسلكوه.(13)
وقال الطبري: والسنة هي المثال المتبع، والإمام المؤتم به، يقال منه: سَنّ فلان فينا سنة حسنة، وسن سنة سيئة: إذا عمل عملاً اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم * ولكل قومٍ سُنَّةٌ و إمَامُها(14)



وقول سليمان بن قَتّة:
وإن الأُلى بالطفِّ(15) من آل هاشم * تآسوا(16) فسنوا للكرام التآسيا(17)



وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل)(18)، يعني أن على قابيل قاتل هابيل نصيب من كل دم يراق؛ لأنه أول من ابتدأ القتل، فقوله: " أول من سن القتل " فيه أن من سن شيئاًَ كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام(19).
وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنه، ومن هذا المعنى قول نصيب:
كأني سننت الحب أول عاشق * من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي



3-والسنة بمعنى الصقل والتزيين، يقال: سنَّ الشيء يَسُنُّهُ سناً، وسنَّنَه أي: صقله وزينه.
قال في اللسان: والسنة: الوجه، لصقالته وملاسته، وقيل هو حُرُّ الوجه، وقيل دائرته، وقيل: الصورة، وقيل الجبهة والجبينان، وكله من الصقالة والأسالة.(20)
وبهذا المعنى وردت في أشعار العرب، قال الأعشى:
كريماً شمائله من بني * معاوية الأكرمين السُّنن

حيث أراد بقوله: (الأكرمين السُّنن) الأكرمين الوجوه، فـ (السنن) الوجوه، و(السنن) جمع سنة.(21)

وقال ذو الرمة:
تُريك سنة وجه غير مُقرفةٍ * ملساء ليس بها خالٌ ولا ندبُ

حيث أراد بقوله " تريك سنة وجه " تريك دائرة وجهها.

وقال ثعلب:
بيضاء في المرآة سُنَّتها * في البيت تحت مواضع اللمس

حيث أراد بقوله: (في المرآة سنتها): في المرآة صورتها(22).
كما وردت في الحديث الشريف بهذا المعنى، ومنه حديث: (أنه - صلى الله عليه وسلم - حَضَّ على الصدقة، فقام رجل قبيح السنة)(23). أي: الصورة.

4-و السنة بمعنى العناية بالشيء ورعايته. يقال: سن الإبل إذا أحسن رعايتها والعناية بها.
والفعلالذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سمي سنة بمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحسن رعايته وإدامته.(24)

5-والسنة بمعنى البيان، يقال: سن الأمر، أي: بينه، وسن الله أحكامه للناس: بينها، فسنة الله:
أحكامه، وأمره، ونهيه، وسنها الله للناس: بينها، وفي الحديث: (إني لأَنسَى أو أُنسَّى لأسُنَّ)(25). أي: إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، و أبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان.(26)


(1) الفروق ص 56
(2) انظر: " فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/298-302)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/347).
(3) انظر: مقاييس اللغة (3/60)
(4) النهاية في غريب الحديث ص 449
(5) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم (1017)
(6) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة (4607) و الترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة النبوية و اجتناب البدع رقم (2678) وقال: حديث حسن صحيح.
(7) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق، (6882)
(8) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " رقم (7320)
(9) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم (57، 58)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد رقم (284).
(10) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله رقم (121).
(11) لسان العرب 13/227، و انظر: القاموس المحيط 4/239، و المعجم الوسيط 1/455، 456
(12) لسان العرب 12/225.
(13) لسان العرب (13/225).
(14) يعني أنك من جماعة " سنت لهم آباؤهم " علمتهم طريق كسب المعالي.
(15) الطف: موضع قرب الكوفة.
(16) تآسوا: من المواساة بمعنى المشاركة.
(17) تفسير الطبري 4/100.
(18) أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم (3335)، ومسلم كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل رقم (1677).
(19) تكملة فتح الملهم (2/213).
(20) اللسان 13/224
(21) يقال سنن الطريق – بفتح السين و ضمها – فالأول مفرد والثاني جمع " سنة " وهي جادة الطريق والواضح فيها.
(22) انظر: لسان العرب 13/224، القاموس المحيط 4/239، المعجم الوسيط 1/455،456.
(23) أخرجه أحمد في المسند (4/288-296).
(24) انظر: لسان العرب (3/2121) تاج العروس (9/244،243).
(25) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب السهو، باب العمل في السهو، رقم (2). قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، والتي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.
(26) انظر: لسان العرب (13/225)، القاموس المحيط (4/238).

بلعاوي
25-03-2011, 04:21 AM
تعريف السنة لغةً

السنة بمعنى دين الله تعالى، الذي هو أمره ونهيه وسائر أحكامه(1)، قال الراغب: وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته(2).

و السنة بمعنى الأمة. نقله القرطبي عن المفضل، و أنشد:
ما عاين الناس من فضل كفضلهم * ولا رأوا مثلهم في سالف السنن(3)



و السنة بمعنى الطبيعة(4). قال في اللسان، والسنة: الطبيعة، وبه فسر بعضهم قول الأعشى:
كريماً شمائله من بني * معاوية الأكرمين السُّنن(5)


و السنة بمعنى الدوام. نقله الشوكاني عن الكسائي(6).

و السنة بمعنى العادة. قال العضد وكثير من علماء الأصول: " السنة لغة: الطريقة و العادة " وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً) (فاطر:43). (سنة الأولين): إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم. جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم، وبين أن عادته - التي هي: الانتقام من مكذبي الرسل - عادة لا يبدلها و لا يحولها "(7) فقد فسر السنة بالعادة كما ترى.
وقال الفنري: " المفهوم من سياق الأصفهاني في شرح البدائع: أن عطف " العادة " على " الطريقة " ليس تفسيرياً حيث قال: وهي في اللغة: الطريقة. يقال: سنة زيد كذا، أي طريقته وسيرته. والعادة. يقال: من سنته كذا، أي: من عادته، قال الله تعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلاً) (الأحزاب:62) أي لعادته "(8).
قال الدكتور/ عبد الغني عبد الخالق معقباً على هذا القول: " ولم أجد في قواميس اللغة تصريحاً: بأن السنة هي العادة، و لا بأن العادة هي الطريقة أو السيرة أو الطبيعة. والذي ذكر في القاموس وشرحه هو: " أن العادة: الديدن يعاد إليه، معروفة. سميت بذلك: لأن صاحبها يعاودها. أي يرجع إليها مرة بعد أخرى. وقال جماعة: العادة: تكرير الشيء دائماً أو غالباً على نهج واحد بلا علاقة عقلية. وقيل: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة، ونقل شيخنا: أن العادة والعرف بمعنى، وقال قوم: قد تختص العادة بالأفعال والعرف بالأقوال. وقال في المخصص نقلاً عن صاحب العين: "العادة: الديدن، والدربة، والتمادي في شيء حتى يصير سجية له "(9).
فإذا نظرنا إلى جميع معاني العادة: وجدنا أنها تفيد معنى الاستمرار والدوام، فكأن من فسر السنة بالعادة أخذ هذا التفسير من قول الكسائي - المنقول فيما تقدم - " إن السنة: الدوام ".
وإذا نظرنا إلى تفسير العادة - في شرح القاموس -: بما يستقر في النفوس إلخ.. وإلى قول صاحب العين: والتمادي في شيء إلخ، وإلى ما نقل عن الراغب في تفسير الطبيعة فيما تقدم: علمنا أن العادة قد تستعمل بمعنى الطبيعة.
وإذا نظرنا إلى تفسيرها: بتكرير الشيء دائماً أو غالباً... الخ، وإلى تفسيرها بالعرف: علمنا أنها بمعنى الطريقة، فإنها تفيد معنى الاستمرار والتكرار.
هذا: وقد وجدت أبا هلال العسكري في كتابه " الفروق اللغوية " يفرق بين السنة والعادة: بأن العادة: ما يديم الإنسان فعله من قبل نفسه، والسنة تكون على مثال سبق.(10).
وبالجملة: فمعاني " العادة والطبيعة والطريقة والدوام " متقاربة إن لم تكن متحدة "(11)
وجماع القول في معنى هذه الكلمة - السنة - اللغوية: أنها تدل على الطريقة المسلوكة، راجعة إلى أصلها، إذ هي من قولهم: سننت الشيء بالمسن، إذا واليت تكراره عليه، و إمراره به حتى صنع له سناً " أي: طريقاً.
وقريب منه أن نقول: إن هذا اللفظ إنما يفيد الاستمرار والدوام والأمر بهما، وهو ظاهر في قولك: سننت الماء، أي واليت صبه بأسلوب منتظم ودائم.
وإذا ما جمعنا المعنيين معاً يتضح لنا: أن السنة إنما تفيد الأمر باتباع طريقة معينة، والتزامها، والسير عليها، حتى تكون هي الطريق والمسار الذي لا يجوز خلافه في مراد من أمر بالتزامه(12).
وهكذا نجد أن الاصطلاح الشرعي للسنة المفهوم من هذه المعاني اللغوية هو: السيرة والطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وتقريراته على وجه العموم.
وإذ قد اتضح من خلال العرض معنى " السنة " في اللغة فلا بد من التنبه لأمور هي:
1. أن السنة بمعنى الطريقة والسيرة - حسنة كانت أو سيئة - قد استعملت في لغة العرب قبل الإسلام، ووردت في أشعار الجاهلية كما سبق إيراده.
2. أن القرآن الكريم والحديث الشريف قد وردت فيهما كلمة " السنة " بمعناها اللغوي السابق.
3. أن السنة وإن خصصها الإسلام بالطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم- في أقواله، وأفعاله، وتقريراته، فإن ذلك لا يعني أن معناها اللغوي قد بطل أو انعدم، بل بقي استعمالها ولكن في نطاق ضيق.

(1) القاموس المحيط ( 4:239 )، المعجم الوسيط ( 1/256 ).
(2) المفردات ص 245.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن ( 4/216 ).
(4) الطبيعة: السجية، مأخوذة من " الطبع " وهو: أن يصور الشيء بصورة ما. كطبع السكة والدراهم، فإن ذلك نقش النفس بصورة ما، إما من حيث الخلقة أو من حيث العادة، وهو فيما تنقش به من جهة الخلقة أغلب. انظر: المفردات للراغب ص 303 بتصرف.
(5) اللسان 13/2125
(6) إرشاد الفحول ص 33
(7) الكشاف 2/246.
(8) حاشية الفنري على التلويح ( 242 )
(9) المخصص 12/75.
(10) الفروق ص 187.
(11) ججية السنة ص 51،50.
(12) السنة في مواجهة أعدائها ص 38.

بلعاوي
26-03-2011, 10:39 AM
السنة النبوية في القرآن الكريم







لقد ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً .


1. فذكرت بلفظ الحكمة كما في :
قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام - في دعائه لهذه الأمة:

" ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة و يزكيهم .."** البقرة /129 **.
وقوله تعالى:

" كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة .." ** البقرة / 151 **.
وقوله تعالى:

" لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة "** آل عمران / 164 **
وقوله تعالى:

" وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " ** النساء / 113 **
وقوله تعالى:
" واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة "** الأحزاب / 34 **
وقوله تعالى:

" هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة " ** الجمعة / 2 **
قال الحسن وقتادة : الكتاب : هو القرآن ، و الحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).


وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: " ذكر الله الكتاب ، وهو القرآن ، وذكر الحكمة، فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنة رسول الله ، وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ، لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله ، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد : دليلاً على خاصه وعامه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه ،ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " (2) .


وقال الطبري – رحمه الله - : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله و معانيه " الحكمة " ويعني بالحكمة : السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانه لهم.(3)


وقال الطبري – أيضاً – بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة – و الصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة بها ، وما دل عليه ذلك من نظائره .(4)
وإذا سلمنا بهذه الحقيقة ، وهي أن بيان القرآن الكريم هو الحكمة التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرنت بالكتاب ، وأن هذه الحكمة ليست شيئاً سوى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن هذا التسليم يطرح تساؤلات :
من بينها : أن القرآن لم يستخدم لفظ " السنة " تعبيراً عن " بيان القرآن "، وإنما استخدم لفظ " الحكمة " فما سبب هذا العدول ؟.
ثم : إذا كان لفظ " الحكمة " هو ما آثره القرآن ، فلم عدل عنه النبي ، وصحابته ، وعلماء الأمة من بعده ، واستبدلوا به لفظ " السنة " ؟.
يقول الدكتور الخولي : " وفي تقديرنا : أن بداية هذا التفسير كامنة في الفرق بين طبيعة كلٍ من " الكتاب " و " السنة " رغم وحدة مصدرهما ، وهو " الوحي " ،كلاهما وحي من الله – تعالى – بشهادة القرآن نفسه .. و السنة من بعده .
أما شهادة القرآن فتطالعنا بينة قاطعة في قوله تعالى:

" وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى " ** النجم / 4،3 **
فما ينطقه رسول الله شامل لما يتلوه على الناس، من قرآن، وما يقوله لهم من حديث. كلاهما وحي إذا.
وبناء على ما قررنا: من أن الحكمة هي " سنة " رسول الله، و أنها ليست سواها ، فقد أصبحت الآية الكريمة :
" و أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً " ** النساء / 113 ** . دليلاً ثانياً قاطعاً، على أن السنة وحي، أنزلها الله على رسوله – كما أنزل الكتاب.
و دليل ثالث: " ثم إن علينا بيانه " ** القيامة / 19 ** أنه وعد قاطع بأن بيان القرآن ، سوف يتولاه الله ، كما تولى " جمعه وقرآنه " على حد سواء ، ولا معنى لهذا سوى : أن يوحي إليه هذا البيان ، بصورة من صور الإيحاء .
السنة إذًا وحي بشهادة القرآن البينة ، و هي وحي بشهادتها كذلك : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (5).
وهو لم يؤت شيئاً غير القرآن - سوى السنة- والسنة ليست مثل القرآن في شيء إلا في كونها وحياً مثله.
ومهما حاولنا أن نجد معنى لكونها مثل القرآن غير كونها وحياً مثله، فقد حاولنا محالاً. فمن البين أنها ليست مثل القرآن كماً، وليست مثل القرآن كيفاً.. و لا يتحدى بها كما يتحدى بالقرآن .
إن بين القرآن و السنة شبهاً محدداً ، ينحصر في أن كليهما وحي من عند الله تعالى ، وبينهما فرق : أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه ، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها .
ونحن نجد هذا الفرق على نحو قاطع، حين نتأمل ما أحيطت به رواية " السنة " بالقياس إلى ما أحيط به تبليغ " القرآن ".
لقد تكفل ربنا بحفظ القرآن، وحماه أن يناله تغيير أو تحريف .." إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " {الحجر / 9**.
ولكنه وكل إلينا حفظ " السنة ".. فتطرق إليها شيء مما لا سبيل للبشر إلى توقيه ، وأبسطه هذا الاختلاف في رواية الحديث الواحد ، بطرق شتى ، كلها موثوق صحيح ، إذ هذا قاطع بأن تصرفا حدث في الرواية ، وهو سبب هذا الاختلاف ، وإذا كان هناك خلاف حول جواز رواية الحديث بالمعنى ، فهناك إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بالمعنى البتة .
ذلك أن لفظ القرآن متعبد به ، ولا كذلك لفظ الحديث النبوي ، والقرآن هو المعجزة وبه التحدي ، ولا كذلك السنة .
هذه الفروق وراء المفارقة البادية، في إيثار القرآن لفظ " الحكمة " وعدول النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه إلى لفظ " السنة ".
وإذا سلم لنا هذا الفرق الجوهري: أن " القرآن " وحي: لفظه ومعناه، وأن " السنة " وحي بمعناها دون لفظها، فقد انفتح لنا الباب لإسقاط الإشكال من أساسه.
وهنا نجتهد آملين في الله أن نكون على صواب : أن " الحكمة " هي : المعاني التي تضمنتها أحاديث رسول الله ، أوحاها الله إليه ، وكساها – صلوات الله عليه – ألفاظا من عنده .
أما " السنة ": فهي هذه المعاني الموحى بها، بعد أن اكتست العبارة التي تحملها، وإذا فمفهوم " السنة " غير مفهوم " الحكمة ".
" الحكمة " هي " المعاني " وحدها.. و " السنة " هي المعاني بألفاظها، وبالتالي لا عدول من جانب النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نهج القرآن، أو تسميته، و لا مفارقة هناك ؟!
مفهوم " الحكمة " مختلف عن مفهوم " السنة ".
" السنة " معنى: هي الحكمة. وهي بهذا المفهوم وحي من عند الله . و " السنة " معنى ولفظاً : هي حديث رسول الله ، وما في معناه ، من فعل أو تقرير .
و الدليل على أن معنى " السنة " وحي من عند الله ، أن لفظها المعبر عن المعنى هو لرسول الله *– صلى الله عليه وسلم – الدليل على هذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم : " إن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي : أنه لن تموت نفس ، حتى تستوفي رزقها ، فأجملوا في الطلب " و في رواية : " إن روح القدس نفث في روعي ... " (6)
" نفث في روعي " لا معنى لها هنا إلا الإلهام، والإلقاء في النفس، وما يلقى في الروع لا يكون إلا من باب المعاني.
لأن ما يلقى بلفظه ومعناه يلقى في الروع و في السمع في آن واحد، كالحديث القدسي، و القرآن العظيم.
وإذا فما نسمعه ونقرؤه من هذا الحديث، ليس ما ألقي في " روع " رسول الله وقلبه.
لقد ألقي إليه المعنى، فعبر عنه، وإذا فهذه المعاني الإلهية الموحى بها، قد وصلتنا من خلال عبارة رسول الله.
وعبارة رسول الله صاغها على طريقته ، وبأسلوبه الخاص ، وهي طريقة في البيان تختلف لا محالة ، عن طريق البيان الإلهي في القرآن .
و السنة لغة: الطريقة، فهل نبعد إذا قلنا: سنة رسول الله : هي طريقته في تبليغ ما أوحي إليه من بيان القرآن – المعاني التي ألهمها – بلفظه وأسلوبه : " حديثاً " أو بفعله : " عملاً " أو بتقريره : " إجازة " وهما في دلالتهما كاللفظ ؟!
ترى: هل يمكن الآن اقتراح وضع لفظ " الحكمة " بدل لفظ " السنة " أو العكس ؟!
لقد استقر كل لفظ في موضعه، لا ينازعه الآخر فيه؛ لأن أياً منهما لا يصلح بديلاً من صاحبه (7) ؟!.


2. وذكرت السنة في القرآن الكريم بأساليب أخرى ، منها :
الأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى :
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم " ** النساء / 59 **.
ومنها : قبول أمره ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى :
" و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا " ** الحشر / 7 ** .
ومنها : القبول والتسليم لقضائه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى :

" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً "** النساء/65 **.
ومنها: التحذير من مخالفته - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى:

" فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " ** النور / 63 **.
ومنها : وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى :

" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ** آل عمران / 31 ** .

وقوله سبحانه :

" و اتبعوه لعلكم تهتدون " ** الأعراف / 158 **
فهذه النصوص وما في موضوعها تلزم الأمة بهديه - صلى الله عليه وسلم -، و تبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به ، وهذا هو الذي نسميه " سنته " - صلى الله عليه وسلم- .(8)


(1) - انظر: الفقيه و المتفقه 1/88 بتصرف.
(2) - الرسالة ص 79،78
(3) - تفسير الطبري 4/163
(4) - تفسير الطبري 1/557
(5) - أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب لزوم السنة ، رقم (4604) ، و الترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (2663 ) ، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. و أخرجه غيرهما و صححه ابن حبان و غيره .
(6) - أخرجه الشافعي في الرسالة ص 53 رقم (306) عن المطلب ، و الحاكم في المستدرك ، كتاب البيوع (2/4) عن ابن مسعود ، أخرجه شاهداً (لحديث جابر الذي ساقه أصلاً ثم شاهدا لهذا الأصل ، و أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 10/27،26 ) عن أبي أمامة ، و أخرجه الخطيب في الفقيه و المتفقه ص 92،93 ، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير ( 2273 ).
(7) - السنة بياناً للقرآن ص 41-46 بتصرف.
(8) - المدخل إلى السنة النبوية ص 21.

الطاهرة المقدامة
26-03-2011, 11:15 AM
بارك الله فيك وجزاك الله كل خير.
جعله الله في موازين حسناتك يوم القيامة أللهم آمين

بلعاوي
27-03-2011, 07:01 PM
بارك الله فيك وجزاك الله كل خير.

جعله الله في موازين حسناتك يوم القيامة أللهم آمين

اللهم آمين


ولكم بمثل دعائكم

أشكر لكم مروركم وتعقيبكم الطيب المبارك

بلعاوي
28-03-2011, 05:55 AM
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومفهوم السلف الصالح



المستقرئ لكتب السنة النبوية وسائر ما يتعلق بها يجد أن كلمة (السنة) قد وردت كثيراً على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك على ألسنة الصحابة والتابعين، وهي بحقيقتها الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف، وذلك فيما جاء منه في سياق الاستحسان والثناء والطلب والاقتضاء، والشواهد على هذا كثيرة جداً، منها :
1- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم : أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استعمل لفظ السنة للدلالة على جملة أحكام الشريعة، فكان المعرض عنها خارجاً عن الإسلام إن كان إعراضه نتيجة لجحوده .
قال القسطلاني – في بيان المراد من السنة هنا: (والسنة مفرد مضاف، يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتداً)(2).
وقال ابن حجر: (المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض ... والمراد : من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري ، فليس مني)(3).
2- عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل : يا رسول الله ! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضلالة)(4).
قال ابن علان: (فعليكم بسنتي: أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها .
وتخصيص الأصوليين لها بـ: المطلوب طلبا غير جازم : اصطلاح طارئ، قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض) (5).
وقال العلامة عبد الغني النابلسي في "الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية": (قوله - صلى الله عليه وسلم - "فعليكم بسنتي .... الحديث": أي الزموا، يقال: عليك زيداً، أي الزمه، وسنته اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير، أو فعله.
والخلفاء جمع خليفة، والمراد من الخلفاء: الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله تعالى عنهم -، وأفرد الضمير في قوله: (عضوا عليها) إشارة إلى أن سنة الخلفاء بعده هي سنته أيضاً، لأنهم سنوها من شريعته إرشاداً وهداية للقاصدين إلى طريقته - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وسلم، لا من قبل نفوسهم لتمشية أغراضها(6).
وقال السيد الشريف علي الجرجاني: (قوله: وسنة الخلفاء، أي الخلفاء الأربعة، وليس المراد نفى الخلافة عن غيرهم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)(7). وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والسيادة لهم بالتفوق على غيرهم، وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من السنة بالاجتهاد، ولأنه علم أن بعض سنته لا يشتهر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة) (8).
وقال المنذري : قوله (عضوا عليها بالنواجذ) أي اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها، كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته ،والنواجذ- بالنون والجيم والذال المعجمة – هي الأنياب،وقيل: الأضراس(9) .
3- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بني ، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي : يا بني ، وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) (10). فقوله (وذلك من سنتي) أي من طريقتي ، ومن أحيا سنتي، أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل، (فقد أحبني) أي حبا كاملاً، لأن محبة الآثار علامة على محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي في الجنة)؛ لأن المرء مع من أحب ، وقال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالْرَّسُوْلَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْنَّبِيِّيْنَ) [ النساء/69] .
4- عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: (اعلم، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً... الحديث) (11).
فقوله (من سنتي) قال الأشرف: ظاهر النظم يقتضي أن يقال (من سنني) لكن الرواية بصيغة الإفراد، فيكون المراد بها الجنس، أي طريقة من الطرق المنسوبة إلي: واجبة أو مندوبة أخذت عني بنص أو استنباط كما أفاده إضافة سنة إلى الضمير المقتضية للعموم (12).
5- عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (......إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)(13).
6- عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل عمل شرَّة – فترة حرص ونشاط – ولكل شِرَّة فترة –فتور ، أي ضعف- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)(14).


7- عن حذيفة قال: "حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة ...."(15).
قال ابن حجر: قوله (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة): فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً كان أو مندوباً (16).


(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم ( 5063 )، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... رقم ( 1401 ).
(2) إرشاد الساري ( 8/4 ).
(3) فتح الباري ( 9/105 ).
(4) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ، رقم ( 4607 ) ، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم ( 2676 ) وقال : حديث حسن صحيح.
(5) دليل الفالحين ( 1/415 ).
(6) نقلا عن تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ص51.
(7) أخرجه البخاري بلفظ ( أميرا )، كتاب الأحكام ، باب ( تابع لباب الاستخلاف ) رقم ( 7222).
(8) نقلاً عن تحفة الأخيار ص 49.
(9) الترغيب والترهيب ص 79.
(10) أخرجه الترمذي ، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم ( 2678)، وقال : هذا حديث حسن غريب.
(11) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم ( 2817) . وقال : هذا حديث حسن، والحديث ضعيف لضعف كثير بن عبد الله، ولكن له شواهد.
(12) شرح مشكاة المصابيح للقاري ( 1/202 ).
(13) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان ، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم ( 2630) وقال : حديث حسن . قلت : بل ضعيف لضعف كثير بن عبد الله ، لكن الحديث قد صح غالبه من وجوه أخرى.
(14) أخرجه ابن حبان في صحيحه – الإحسان – رقم (394) وقال المنذري في الترغيب ( 1/87) : رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه.
(15) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب رفع الأمانة ، رقم ( 6497).
(16) فتح الباري ( 13/39).

بلعاوي
29-03-2011, 05:39 AM
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومفهوم السلف الصالح


8- عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ....)(1).
قال العلامة شبير العثماني : (إذا كان في القوم رجال متقاربون في العلم والديانة، ومتساهمون في وجوه الأفضلية، بحيث تصير الإمامة مظنة للتجاذب والتنازع، ويحتاج إلى تجشم المرجحات: فيعمل على شاكلة حديث الباب، فيقدم الأقرأ لكتاب الله، والمراد بالقراءة قراءته بفهم معانيه، وأحكامه، كما كان دأب الصحابة وغيرهم من السلف - رضي الله عنهم -، فكان قراؤهم علماءهم ، وهم المرادون بلفظ ( القراء ) في قصة بئر معونة، وغزوة اليمامة، وقراءة الكتاب بمعانيه وأحكامه لا تكاد تحصل إلا بعلم ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ومعرفة سننه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - هو المبين لما أنزل عليه من الكتاب، كما أن علم السنة لا يتم إلا بمعرفة مآخذه من القرآن، فكان علم الكتاب وعلم السنة متساوقين، إلا أن السالكين سبل العلم : منهم من يغلب عليه القرآن ، فيشتغل به اشتغالاً متميزاً كعبد الله بن عباس، وأبي بن كعب من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم من يغلب عليه لون الحديث، فيكون أكبر همه اشتغاله واعتناؤه بمعرفة السنن وتحقيق الآثار وفقهها، بحيث يصير الحديث هو فنه ، كأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما -، فإذا كان في القوة مثل هذين الرجلين فيقدم من غلب عليه علم الكتاب، فإن تقدم الكتاب على سائر الأدلة يقتضي تقديم المشتغل به على من هو مشتغل بغيره، تنويها بشأن كتاب الله، وترغيبا في تحصيل علومه، فإن الله يرفع به أقواماً ويضع به آخرين، وإن كانوا في علم الكتاب سواء فمن غلب عليه علم السنة، فإن كانوا فيه سواء فأقدمهم هجرة ....)(2).

9- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال:
(إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله وسنة نبيه )(3).

10- عن عروة قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى :
(إِنَّ الصَفَاَ وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَفَ بِهِمَا) [البقرة: 158].
فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت:
(بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليها كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار .... وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما)(4).
قال ابن حجر تعليقا على قول عائشة : (سن رسول الله الطواف بين الصفا والمروة):
(تنبيه: قول عائشة: سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بين الصفا والمروة: أي فرض بالسنة، وليس مرادها نفى فرضيتها -أي نفى فرضية هذه العبادة المشروعة– ويؤيده قولها في صحيح مسلم : ولَعَمْرِي ما أتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما)(5) .

11- عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيبا، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد:
(أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)، وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين)(6).
قال صاحب المرعاة : (أصبت السنة ، أي الطريقة الشرعية الثابتة بالسنة، يعني وافقت الحكم المشروع، وهذا تصويب لاجتهاده، وتخطئة لاجتهاد الآخر)(7).

12- عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن الجزور والبقرة عن سبعة (8).

13- عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال : ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا قد علمته ، غير ثلاث :
1- لا أدري كان يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ .
2- ولا أدري كيف كان يقرأ – قوله تعالى :
(وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عُتِيًّا)أَوْ(عُسِيًّا)؟.
3- قال حصين – بن عبد الرحمن الراوي عن ابن عباس -: ونسيت الثالثة(9).

14- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة قتل المشركين للصحابي الجليل خبيب بن عدي الأنصاري صبرا – وفيه قول أبي هريرة : (فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً) (10).
وفي رواية ثانية (وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبراً : الصلاة)(11).
وفي رواية ثالثة (فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو)(12).
قال العلامة القسطلاني عند الرواية الأولى: (وإنما صار فعل خبيب سنة، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه) (13).
وقال عند الرواية الثانية : ( وإنما صار ذلك سنة ، لأنه فعل في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاستحسنه وأقره )(14).
وقال أيضاً عند الرواية الثالثة : ( واستشكل قوله : أول من سن ، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله،وأجيب بأنه فعلهما في حياته - صلى الله عليه وسلم - واستحسنهما )(15).
وواضح من حديث أبي هريرة السابق وقصة قتل خبيب فيه : أن لفظ (السنة) ولفظ (سنَّ) معناه : الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقه أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ (سنَّ) فتكون صلاتهما سنة مستحبة، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليل آخر خارج لفظ (سنَّ) بلا ريب ، وهو إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم -لفعله.
وكذلك يقال في تفسير حديث جابر رضي الله عنه ذي الرقم ( 12).
أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ذي الرقم (13) فناطق صريح بأن معنى (سنَّ) – أو السنة – فيه: المشروعات على اختلاف أحكامها، من فرض أو واجب أو سنة أو مندوب أو مباح ، بل يدخل في أسلوبه الحصري علم ابن عباس - رضي الله عنه - بالممنوعات أيضاً التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اختلاف أحكامها(16).
وقد أصبح هذا المعنى للسنة واضحاً ومعلوماً لكل من دخل في الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه.


(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب من أحق بالإمامة، رقم ( 673) .
(2) فتح الملهم ( 4/20 ) ط : دار القلم .
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 1/93) وقال : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي .
(4) أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله ، رقم ( 1643 ) ،ومسلم ، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به ، رقم ( 3079) .
(5) فتح الباري 3/501.
(6) أخرجه أبو داود ، كتاب الطهارة، باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، رقم ( 338) .
(7) مرعاة المفاتيح ( 1/350) .
(8) أخرجه أحمد في المسند ( 3/335) بسند حسن .
(9) أخرجه أحمد في المسند ( 1/257) بسند صحيح .
(10) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ،باب هل يستأسر الرجل " ومن لم يستأسر ،ومن صلى ركعتين عند القتل ، رقم ( 3045)
(11) صحيح البخاري ، كتاب المغازي، باب ( تابع لباب فضل من شهد بدراً) رقم ( 3989) .
(12) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان ...رقم ( 4086) .
(13) إرشاد الساري ( 5/165) .
(14) إرشاد الساري ( 5/261) .
(15) إرشاد الساري ( 6/314) .
(16) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 17.

بلعاوي
01-04-2011, 10:31 AM
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومفهوم السلف الصالح


ومما يدل على أن السنة قد عرفت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارها قرينة للقرآن وتالية له.
1- ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال : (جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم القراء ...)(1).
2- عن أنس ، أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا : ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: (هذا أمين هذه الأمة)(2) .
3- عن أبي موسى الأشعري قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا، فقال: (إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا ....)(3).
4- عن معاذ بن جبل لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)(4).
5- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (إنما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الخمسة : في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب والذرة )(5).
6- عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تغلبونا على ثلاث : أن نأمر بالمعروف ، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن)(6).
وقد ظل هذا المعنى للسنة النبوية – أنها الطريقة المتبعة في الدين التالية للقرآن العظيم، الشاملة للأحكام الاعتقادية والعملية، واجبة كانت أو مندوبة أو مباحة – واضحا في أذهان الصحابة ومن بعدهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والشواهد على ذلك كثيرة ، منها :
1-عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: (جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تسأله ميراثها، فقال : ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس ...)(7).
2- قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- في حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنه -: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ....)(8).
3-عن شقيق بن سلمة قال : سمعت الصبي بن معبد يقول: (كنت رجلاً نصرانياً فأسلمت، فأهللت بالحج والعمرة ، فسمعني سلمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعا بالقادسية، فقالا: لهذا أضل من بعيره، فكأنما حملا علي جبلاً بكلمتهما، فقدمت على عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل عليهما، فلامهما، ثم أقبل عليّ فقال: هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(9).
4-وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضاً: (سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن ، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)(10).
5-وقال عمر بن الخطاب أيضا في كتابه لشريح القاضي: (إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ...)(11).
6-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناكم به، ولا طاقة لنا بما أحدثتم )(12).
7-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً: (فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله ، فإن لم تجدوه في سنة رسول الله فما أجمع عليه المسلمون ...)(13).
8-وقال سالم : (كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله - عزَّ وجلَّ- من الرخصة بالتمتع وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك؟ وقد نهى عن ذلك، فيقول لهم عبد الله: ويلكم ألا تتقون الله! إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرمون ذلك ؟وقد أحله الله وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟)(14).
9-وعن جابر بن زيد، أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له : يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة ، فلا تفت إلا بقرآن ناطق ، أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت(15).
10- وعن سالم بن عبد الله بن عمر، أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير - رضي الله عنهما - سأل عبد الله : كيف تصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة فَهجِّر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة، فقلت – القائل ابن شهاب الراوي عن سالم – لسالم : أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال سالم : وهل تتبعون في ذلك إلا سنته(16).
يقول السيوطي: (فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا (السنة) لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(17).
11- وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حين قال له رجل: أرأيت أرأيت، فقال: (اجعل أرأيت باليمن، إنما هي السنن)(17) . أي الدين المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
12- وعن عكرمة قال: كان ابن عباس يضع في رجلي الكبل – القيد – ويعلمني القرآن والسنن(19).
13- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن)(20).
14- وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه)(21).
15- وقال أبي بن كعب - رضي الله عنه -: (عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة وذكر الرحمن ، ففاضت عيناه من خشية الله - عزَّ وجلَّ - فيعذبه)(22).


(1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ( 4917) .
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، رقم ( 6253) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة ، باب التشهد في الصلاة ، رقم ( 904) .
(4) أخرجه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، رقم ( 3592) ، والترمذي ، كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ، رقم ( 1327) ، وأحمد في المسند ( 5/230) ، والدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيها من الشدة ، رقم (170) والبيهقي في الكبرى، كتاب أدب القضاء، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي 10/114، وصححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( 1/243-244) ، وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/3) ، وهذا الحديث في المسند والسنن بسند جيد، وضعفه البخاري وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم .
(5) أخرجه ابن ماجه ، كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، رقم ( 1815) .
(6) أخرجه أحمد في المسند ( 5/165) ، والدارمي ، المقدمة ، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن ، رقم ( 549) .
(7) أخرجه أبو داود ، كتاب الفرائض ، باب في الجدة، رقم ( 2894) ، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، رقم ( 2100) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(8) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة البائن لا نفقة لها، رقم ( 3710) .
(9) أخرجه ابن ماجه ، كتاب المناسك ، باب من قرن الحج والعمرة ، رقم ( 2970) .
(10) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 119) .
(11) أخرجه الدرامي، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 167) .
(12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 101) .
(13) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 169) .
(14) أخرجه أحمد في مسنده ( 2/95) .
(15) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 164) .
(16) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة ، رقم ( 1662) .
(17) تدريب الراوي 1/189.
(18) الشرح والإبانة ص 126.
(19) خرجه الدارمي، المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم الناس السنن ، رقم ( 559) .
(20) البدع لابن وضاح ص 38.
(21) الشرح والإبانة ص 122.
(22) أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 1/352-353 ) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 1/54رقم 10 ) .

بلعاوي
05-04-2011, 12:02 PM
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -

ومفهوم السلف الصالح

وإذا كانت هذه النصوص التي أوردناها تحكي مواقف الصحابة ومفهومهم للسنة، فهذه نصوص أخرى تحكي مواقف من بعدهم ومفهومهم للسنة ، وهي تنحو المنحى نفسه:
1- قال غضيف بن الحارث - رحمه الله - (ت 65هـ): (لا تظهر بدعة إلا ترك من السنة مثلها)(1).
2- وقال عبد الله بن الديلمي - رحمه الله – من كبار التابعين: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سنة سنة ، كما يذهب الحبل قوة قوة)(2).
3- وقال أبو إدريس الخولاني - رحمه الله - (ت 80هـ): (وما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله عنهم بها سنة)(3).
4- وقال شريح القاضي - رحمه الله - (ت 80هـ): (إن السنة سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر)(4).
5- وقال أبو العالية - رحمه الله - (ت 90هـ): (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء)(5).
6- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن (ت 94هـ) للحسن البصري (ت 110هـ) - رحمهما الله -: (بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كتاب منـزل)(6).
7- وقال عروة بن الزبير - رحمه الله - (ت 92، 94، 95هـ): (السنن السنن فإن السنن قوام الدين)(7).
8- وقال عمر بن العزيز - رحمه الله - (101هـ): (السنة إنما سنها من علم ما جاء في خلافها من الزلل)(8).
وقال أيضا: (إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- )(9).
وقال أيضا: (لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى)(10).
وقال أيضا: (سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله - عزَّ وجلَّ -، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله - عزَّ وجلَّ - ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا)(11).
9- وقال ابن سيرين - رحمه الله - (ت 110هـ): (ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة)(12).
10- وقال مكحول - رحمه الله - (ت 113هـ): (السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر ، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها حرج)(13).
وهذا يشمل أصول الدين وفروعه ، وقد قسمها إلى واجبة ودونها، وما دون الواجب هو المقصود عند بعض الفقهاء حين عرفوا السنة بأنها: (ما ثبت عن النبي - صلى الله وعليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب) (14).
وقال مكحول أيضا: (القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن)(15).
يقصد أن القرآن لا يمكن فهمه وتطبيقه من غير السنة لأنه يعني بالقواعد الكلية والأصول العامة للأحكام، ولذا فقد أحال القرآن الكريم على السنة لتبين الأحكام على وجه الابتداء ، أو التفريع أو النسخ.

11- وقال حسان بن عطية - رحمه الله - (ت 120هـ): (كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن)(16).
12- وقال عون بن عبد الله - رحمه الله - (120هـ): (من مات على الإسلام والسنة فله بشير بكل خير)(17).
13- وقال يحيى بن أبي كثير - رحمه الله - (ت 129هـ): (السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة)(18).
ومعنى قضاء السنة على الكتاب أنها تفسره وتفصل أحكامه، فتخصص عامه وتقيد مطلقه، وتوضح مشكله وهكذا.
14- وقال الزهري - رحمه الله - (ت 135هـ): (كان من مضى من علمائنا يقول: (الاعتصام بالسنة نجاة)(19).
15- وقال الأعمش - رحمه الله - (ت 148هـ): (لا أعلم قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث ويحيون هذه السنة ، وكم أنتم في الأرض ؟ والله لأنتم أقل من الذهب)(20).
16- وقال عبد الله بن عون البصري - رحمه الله - (ت 151هـ): (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآن فيتعلمه ويقرأه ويتدبره وينظر فيه ، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه ويتبعه جهده ، والثالثة: أن يدع هؤلاء الناس إلا من خير)(21).
17- وقال الأوزاعي - رحمه الله - (ت 157هـ): (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة ، واتباع السنة ، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل الله...)(22).
18- وقال سفيان الثوري - رحمه الله - (ت 161هـ): (اتبع السنة ودع البدعة)(23).
19- وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله - (ت 187هـ): (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة ينهون عن أصحاب البدع)(24).
20- وقال أبو الخلال - رحمه الله -: (إنه سيأتي على الناس زمان يقوم الرجل يسأل عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم- فلا يجد أحداً يخبره بها)(25).
والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، وظاهر منها جميعا أن السنة في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناها: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين ، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وفي ذلك يقول ابن حجر. (تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث ، لا يراد به التي تقابل الواجب)(26).
ويقول ابن رجب: (والسنة: هي الطريق والسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو – يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين – من الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السنة الكاملة ، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، روي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض)(27).
وقال السيوطي عن الصحابة والتابعين: (إنهم إذا أطلقوا " السنة " لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- )(28).
فهذه نصوص صريحة واضحة على المراد بالسنة إذا وردت في الحديث أو في كلام الصحابة والتابعين.



(1) الشرح والإبانة ص 143.
(2) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب اتباع السنة ، رقم (97).
(3) البدع لابن وضاح ص 36.
(4) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب تغير الزمان وما يحدث فيه ، رقم (202).
(5) شرح أصول الاعتقاد (1/62 رقم 17).
(6) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم (163).
(7) أخرجه المروزي في (السنة) رقم (110).
(8) البدع لابن وضاح ص 38.
(9) السنة للمروزي رقم (94).
(10) السنة للمروزي رقم (95).
(11) أخرجه الآجري في الشريعة (1/48، 65، 307) اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد(1/106رقم 135) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/73)
(12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي، رقم (212).
(13) السنة للمروزي ، رقم (105).
(14) إرشاد الفحول ص 31.
(15) السنة للمروزي ، رقم (104).
(16) السنة للمرزوي ، رقم (102).
(17) شرح أصول الاعتقاد (1/67).
(18) السنة للمروزي ، رقم (103).
(19) شرح أصول الاعتقاد (1/106 رقم 137) ، وأخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب اتباع السنة ، رقم (96).
(20) أخرجه عياض في الألماع ص 27، المحدث الفاصل ص 177.
(21) السنة للمروزي ، رقم (106) ، شرح أصول الاعتقاد (1/ 68 رقم 36).
(22) شرح أصول الاعتقاد (1/71 رقم 48) ، شرح السنة للبغوي (1/209).
(23) شرح السنة للبغوي (1/217).
(24) الشرح والإبانة لابن بطة ص 153.
(25) السنة للمروزي ، رقم (111).
(26) فتح الباري (10/340).
(27) جامع العلوم والحكم ص230.
(28) تدريب الراوي (1/189).

بلعاوي
08-04-2011, 04:59 AM
تساؤل والجواب عليه





قد يتساءل البعض عن هذه الإطالة في إيراد كل تلك النصوص، وعذرنا في ذلك: أن عدم الوقوف عليها ومعرفة مدلولها الصحيح أوقع كثيراً من المثقفين وطلاب العلم في أخطاء منهجية خطيرة، إذا قصروا السنة على مفهوم الفقهاء لها، وهي ما يقابل الفرض أو الواجب، أي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا اصطلاح متأخر لا ينبغي حمل كلمة (السنة) عليه، لأنه يخص طائفة جل عملها معرفة أحكام الشرع على أفعال المكلفين، ومن ثم تساوق التعريف مع بحثهم.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: (مما هو معلوم أن لفظ السنة من الألفاظ الاصطلاحية الفقهية الدائرة في كلام الفقهاء وكتب الفقه باستمرار، وهي عندهم بمعنى ما يقابل الواجب أو الفرض، وقد ظهر وانتشر هذا الاصطلاح الفقهي في القرن الثاني وما بعده، بعد عهد التابعين).
ووقع من بعض فقهاء المذاهب خلط بين المعنيين، فأقاموا لفظ (السنة) الوارد في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كلام الصحابة والتابعين، دليلاً على (سُنِّية) العمل المرغب فيه بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وذلك خطأ يجب التنبه له، فإن لفظ (السنة) الوارد في الأحاديث النبوية، أو كلام الصحابة والتابعين، يعتمد المعنى الشرعي العام، فيشمل الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغيره.
وهذه فيها الفرض والواجب وكل مرغب فيه ومستحب مشروع من الأقوال والأفعال، قال العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي – رحمه الله تعالى – في: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية: (وسنته - صلى الله عليه وسلم - اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله) انتهى.
ولفظ (السنة) الدائر في كلام الفقهاء، وكتب الفقه يعتمد المعنى الاصطلاحي الخاص، الذي حددوه بما يقابل الواجب أو الفرض، فالفرق بين المعنيين والاستعمالين ظاهر، والاستدلال على (سُنِّية) العمل بكونه ورد في لسان النبوة أو كلام الصحابة والتابعين بلفظ (السنة) خطأ واضح.
....ثم قال: " ولما روى البخاري في صحيحه في كتاب اللباس في (باب قص الشارب) حديث أبي هريرة المرفوع (الفطرة خمس – أو: خمس من الفطرة – الختان والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) شارحا أحكام الختان: (ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى وجوب الختان – أي للذكور والإناث على السواء – دون باقي الخصال الخمسة المذكورة، وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء.
وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب – أي هو سنة – ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)(2).
وهذا لا حجة فيه؛ لما تقرر أن لفظ (السنة) إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب(3)، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك، دَلَّ على أن المراد افتراق الحكم.وحديث شداد ضعيف.
والتعبير في بعض روايات حديث أبي هريرة: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) بلفظ: (خمس من السنة) بدل لفظ (الفطرة) يراد بالسنة هنا: الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بهذا الشيخ أبو حامد – الغزالي – والماوردي، وغيرهما. وقالوا: هو كالحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
فقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (تقرر أن لفظ "السنة" إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب) نص صريح، بل قاعدة ناطقة في الموضوع، فينبغي أن يكون طالب العلم على ذكر دائم لهذا، حتى لا يتورط بالاستدلال على سنية الشيء عند الفقهاء بورود لفظ السنة في الحديث، مثل ما تقدم ذكره في شرح حديث (الختان سنة للرجال)...
فلفظ (السنة) في الحديث النبوي، وكلام الصحابة، والتابعين، معناه: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض، أو الواجب، وهو (السنة) بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء (4).
هذا هو السبب الأول لإيراد كل تلك النصوص، والتي سبق عرضها، وبيان فهم العلماء لها.
والسبب الثاني الذي دفعنا لتلك الإطالة هو كشف زيف المستشرقين وأذنابهم، الذين تغاضوا عن هذه النصوص، بل وبتروها من سياقها لتحقيق أغراض دنيئة من وراء ذلك، وهو الطعن في السنة، وعدم اعتمادها كمصدر إسلامي يعول عليه في أحكام هذا الدين، وسوف نعرض لشبهاتهم حول هذا المصطلح (السنة)، لكن بعد تعريف السنة اصطلاحًا، وشرح التعريف، وتبيان علاقة السنة بالحديث والخبر والأثر، فإلى ذلك بتوفيق الله تعالى.




(1) فتح الباري (10/340).
(2) أخرجه أحمد (5/75) والبيهقي في السنن الكبرى (8/325)، وهو ضعيف: انظر: نيل الأوطار (1/183-184).
(3) وقال الشوكاني في النيل (1/184): (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب، لأن لفظ (السنة) في لسان الشارع أعم من (السنة) في اصطلاح الأصوليين).أقول: لعله يعني الفقهاء لأنهم هم الذين يبحثون عن أحكام الشرع على أفعال المكلفين.
(4) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 9، 10، 18، 19.

بلعاوي
09-04-2011, 04:13 AM
السنة إصطلاحاً




يختلف تعريف السنة في الاصطلاح تبعاً لاختلاف أغراض العلماء من بحوثهم، حسب تخصصاتهم المختلفة، وفيما يلي تعريفهاعند المحدثين، والأصوليين، والفقهاء.

السنة في اصطلاح المحدثين:
للمحدثين تعريفات متعددة للسنة، من هذه التعريفات:
1- هي أقواله - صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلْقِيَّةِ والخُلُقِيَّةِ، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
هذا هو المشهور عند جمهور المحدثين، وكأن السنة عندهم خاصة بالحديث المرفوع فقط، أما الموقوف والمقطوع فلا.
ولعل سند هؤلاء فيما ذهبوا إليه هو: تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم- لكل ما جاء به في مقابلة القرآن بالسنة، مثل قوله في خطبته في حجة الوداع: (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي)(1).
وعلى هذا القول يحمل تسمية كثير من المحدثين لكتبهم في الحديث باسم السنن مثل:سنن أبي عيسى الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وسنن الإمام أبي داود السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وسنن النسائي المتوفى سنة 303هـ، وسنن ابن ماجه القز ويني المتوفى سنة 273هـ، أو سنة 275هـ.

2-وقيل: هي – أي السنة – أقواله - صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها،وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله عنه- المتوفى سنة 150هـ، فقد ورد عنه أنه قال:" ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم، وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم ".
وقال: " إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه مَنْ شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم "(2).
وكأن السنة عند أبي حنيفة مخصوصة بالمرفوع والموقوف فقط، أما ما عداهما من المقطوع فلا، ولعل سنده فيما ذهب إليه قول - صلى الله عليه وسلم-: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)(3).

3- وقيل: هي – أي السنة – أقواله - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره، سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين المعروف البيهقي المتوفى سنة 458هـ، حيث أسمى كتابه – الذي جمع فيه ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم – بالسنن الكبرى، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
ولعله استند فيما ذهب إليه إلى: أن الصحابة خالطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وشاهدوا الوحي والتنـزيل، وكذلك خالط التابعون الصحابة وجالسوهم، وسمعوا منهم، فكان قولهم وفعلهم أولى بالقبول من غيرهم، وأصبح داخلاً في مفهوم السنة.




(1) الحديث أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً، كتاب القدر، ص: 561، ط: الشعب، قال الزرقاني في شرحه للموطأ ( 4/246): " إن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة " وقد أسنده ابن عبد البر في التمهيد من حديث أبي هريرة وحديث عمرو بن عوف،وقال: " هذا حديث مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد "، ينظر: ( فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك (9/282-283)، وأخرجه الحاكم في المستدرك ( رقم 931 )، وصححه، ووافقه الذهبي ".
(2) أصول السر خسي ( 1/313).
(3) الحديث أخرجه الترمذي في السنن،كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع رقم ( 2676 )، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود في السنن، كتاب السنة، باب لزوم السنة، رقم ( 4607 )، وابنماجه في السنن، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين رقم ( 42، 43 )، والإمام أحمد في المسند ( 4/126، 127) كلهم من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه-.

بلعاوي
15-04-2011, 05:53 AM
- الراجح:


الراجح من هذه التعريفات هو التعريف الثاني، والذي يدرج أقوال الصحابة وأفعالهم في السنة، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن السنة إذا أُطْلِقَتْ وعُرّفت تنصرف إلى سنته - صلى الله عليه وسلم-، أما إطلاقها على ما جاء عن الصحابة فإنما يأتي مقيدا، فيقال (سنة الخلفاء الراشدين) أو (السنة الراشدة) وسبب هذا الترجيح ما يأتي:

1-أن الله - عزَّ وجلَّ- زكى الصحابة والتابعين في كتابه الكريم، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1).
يقول الشاطبي: " سنة الصحابة - رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها، ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك: ثناء الله عليهم من غير مثنوية(2)، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(3).
وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(4).

2-أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حَضَّ على الأخذ عنهم، فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ....)(5).
وقال أيضاً:
(إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
وقد أدرك سلفنا قيمة هذا التوجيه النبوي، فقرروا سنية أقوال الصحابة وأفعالهم:
أخرج ابن عبد البر بسنده عن مالك بن أنس قال، قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتدٍ ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"(6).
وروى الدارمي بسنده عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: " ما أحب أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا، فإنهم لو اجتمعوا على شيء فتركه رجل ترك السنة، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحد أخذ بالسنة "(7).
وأخرج ابن عبد البر بسنده عن صالح بن كيسان قال: "اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن: فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، وقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، وكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت"(8).
وهذا ما حدا بالإمام البيهقي أن يجمع في كتابه "السنن الكبرى" ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وما جاء عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.

3-ما كونوا عليه من الفقه في الدين بحيث صاروا أقدر من غيرهم على الفتوى والاجتهاد، فكأن ما جاء عن هؤلاء من قول، أو فتوى، أو فعل، لا يخرج عن اقتداء بسنة، أو قياس على سنة، لذا كان من الأليق أن يكون داخلاً في مفهوم السنة.
قال الشاطبي: "جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة.
وحسبك من ذلك: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم- ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم-، وما ذاك من جهة كونهم رأوه، أو جاوروه، أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته، مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة"(9).



(1) سورة التوبة / 100.
(2) أي من غير استثناء.
(3) سورة آل عمران /110.
(4) سورة البقرة /143.
(5) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم (2676)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم (42، 43).
(6) جامع بيان العلم (2/1176 رقم 2326)، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/435رقم 455).
(7) سنن الدارمي، المقدمة، باب اختلاف الفقهاء (1/151).
(8) جامع بيان العلم (1/333 رقم (442) وإسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/258-259).
(9) الموافقات (4/ 456، 462، 463).

بلعاوي
16-04-2011, 05:26 AM
السنة في اصطلاح الأصوليين (1-2)





عرف الفقهاء السنة بأنها: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم- غير القرآن، وأفعاله، وتقريراته التي يمكن أن تكون دليلاً لحكم شرعي(1).
كأن ما صدر عنه من الأقوال، والأفعال، والتقريرات، التي تعد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم- ليست داخلة في تعريف السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته - صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنها لا تفيد حكماً شرعياً يتعبد الناس به.
لذلك نرى الأصوليين غالباً ما يغفلون الكلام عن الأمور التي هي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم- ، ومن تكلم منهم عنها فمن باب بيان أنها ليست ملزمة للناس.

السنة في اصطلاح الفقهاء:
1-هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولم يكن مفروضاً، ولا واجباً، مثل تثليث الوضوء، ومثل المضمضة، والاستنشاق عند بعضهم،ومثل تقديم اليمنى على اليسرى، ومثل الركعتين قبل فرض الصبح، ونحو ذلك.
2-وقد يطلقها الفقهاء ويعنون بها ما يقابل البدعة، كقولهم فيمن طلق زوجته في غير حيض وفي غير طهر التقيا فيه – هذا طلاق سني- في مقابلة الطلاق البدعي، وهو الذي يحدث في طهر التقيا فيه، أو يحدث في حيض، حيث يأبى الإسلام بنظامه العام أن يشق على المطلقات بإطالة العدة(2).
ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض التي تعنى بها كل فئة من أهل العلم.
فعلماء الحديث:إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الإمام الهادي الذي أخبر الله عنه أنه أسوة وقدوة لنا، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق، وشمائل وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا.
وعلماء الأصول: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المشرع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته، التي تثبت الأحكام وتقررها.
وعلماء الفقه: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوباً، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك(3).
والذي نعنيه بالسنة هنا: هو اصطلاح المحدثين؛ لأنه يشمل تعريف الأصوليين، ويبحث في السنة النبوية من كل جوانبها.

شرح التعريف:
انتهينا فيما سبق إلى أن السنة عند المحدثين: (هي أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها). وإليك شرح هذا التعريف.
يقصد بأقواله – صلى الله عليه وسلم -: كل ما تلفظ به في مختلف الظروف والمناسبات، ويسميه العلماء أيضاً بالسنة القولية، ويجمع فيقال: سنن الأقوال، ومثاله:
1- قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(4).
2- وقوله – صلى الله عليه وسلم –: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)(5).
3- وقوله – صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)(6)وغير ذلك.


(1) ينظر: فواتح الرحمات بشرح مسلم الثبوت ( 2/96 )، بهامش المستصفى للغزالي، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ( 1/127 )، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام ( 3/19/20 )، إرشاد الفحول الشوكاني، ص: 33.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(3) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص: 47-49.
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي (1)، ومسلم في الصحيح، كتاب الإمارة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنية " ( 4890) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، رقم: ( 5987 ) ومسلم في الصحيح كتاب البر باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها ( 6518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوصايا، باب الوصايا، ( 2738) ومسلم في الصحيح كتاب الوصية ( 4207).

بلعاوي
18-04-2011, 04:14 AM
السنة في اصطلاح الأصوليين (2)

ويقصد بأفعاله - صلى الله عليه وسلم-: سلوكه وتطبيقه العملي لوحي الله تعالى المنزل عليه، ومثاله:

1-ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: ( سمع الله لمن حمده ) حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ( ربنا ولك الحمد )، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد،ثم يكبر حين يرفع رأسه،ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)(2).

2-ما رواه أبو جحيفة قال: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة فأتى بوضوء، فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم- الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عنزة)(3).

3-ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما-: (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة)(4)، وغير ذلك.
ويقصد بتقريراته – صلى الله عليه وسلم -: كل ما صدر عن بعض أصحابه من قول، أو فعل، وأقره - صلى الله عليه وسلم- إما بسكوت منه وعدم إنكار، وإما بموافقة وإظهار استحسان.
وقد يسأل سائل: كيف يكون الإقرار من السنة وهي واجبة الاتباع مع أنه ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا من فعله ؟.
والجواب: أن الإقرار صار من السنة الشريفة بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم-، فهو - عليه السلام- لا يقر باطلاً، ولا يسكت على منكر، فما أقره دَلََّ على أنه لا حرج فيه، - وذلك كما قال ابن حزم -: لأن الله – عزَّ وجلَّ– افترض عليه التبليغ، وأخبره أنه يعصمه من الناس، وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم؛ فمن ادعى أنه - عليه السلام- علم منكراً فلم ينكره فقد كفر؛ لأنه جحد أن يكون - عليه السلام- بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه ربه تعالى، وكذبه في قوله - عليه السلام-: (اللهم هل بلغت؟) فقال الناس: نعم. فقال: (اللهم اشهد). قال ذلك في حجة الوداع(5).

ومن أمثلة الإقرار:
1-إقراره - صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على اجتهادهم في شأن صلاة العصر في غزوة بني قريظة:
حين قال لهم: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(6).
فقد فهم بعضهم من هذا النهي أنه على حقيقته، وأنه تحرم صلاة العصر إلا في بني قريظة، فأخرها إلى هناك حتى خرج وقتها، وفهم البعض الآخر من هذا النهي: أنه ليس على حقيقته، وأن المقصود منه الحث على الإسراع، فصلاها في وقتها، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم- بما صنع الفريقان لم يعنف واحداً منهما، ولم ينكره عليه، فكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم- إقراراً بصواب صنيعهما، وصار ذلك سنة تقريرية عنه - صلى الله عليه وسلم-.

2-ما رواه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال:(يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئاً)(7).

3-ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوماً على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم)(8).
وقد علق الأستاذ الدكتور/ أديب صالح على ذلك قائلاً: (فهذا إقرار منه لا يجوز لأحد بعده أن يعتبر اللعب في المسجد بالسلاح – تمريناً على الحرب واستعداداً للقتال إن احتيج إلى ذلك – أمراً مخالفاً للسنة)(9).


(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود( 789)، ومسلم في الصحيح، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، ( 868).
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، رقم ( 187).
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ( 1617)، ومسلم في الصحيح، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف الأول في الحج ( 3048) ومعنى: خب: أي يرمل، والرمل: الهرولة، يسعى: يسرع، بطن المسيل: أي الوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد والآخر بدار العباس.
الراوي: أبو جحيفة السوائي (صحابي) المحدث: البخاري (http://www.dorar.net/mhd/256) - المصدر: صحيح البخاري (http://www.dorar.net/book/6216&ajax=1) - الصفحة أو الرقم: 187 خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
(4) الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: البخاري (http://www.dorar.net/mhd/256) - المصدر: صحيح البخاري (http://www.dorar.net/book/6216&ajax=1) - الصفحة أو الرقم: 1644 خلاصة حكم المحدث: [صحيح] الإحكام في أصول الأحكام 1/146.

(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ( 4119).
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقاً، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت 1/95، وأبو داود في السنن، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ؟ ( 334).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد ( 454)، ومسلم في الصحيح، كتاب العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد ( 2064).
(8) لمحات في أصول الحديث، ص: 29، 30.

بلعاوي
19-04-2011, 04:00 AM
السنة في اصطلاح الأصوليين (3)


ويقصد بصفاته الخُلقية: ما يتعلق بأخلاقه الشريفة - صلى الله عليه وسلم-، ومن أمثلة ذلك:
1- قول السيدة عائشة - رضي الله عنها- حين سُئِلَتْ عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ فقال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- القرآن)(1).
2- ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها)(2).
3- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما-: قال: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)(3).
هذه بعض أخلاقه - صلى الله عليه وسلم-، ولقد وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى درجة الكمال البشري فاتصف بكل صفات هذا الكمال البشري، ووجدت فيه كل صفة على أعلى درجاتها، وكمال هيئتها.
وامتدحه ربُّ العزة قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم: 4.
ولله در القائل:
يا مصطفى من قبل نشـأة آدم والكون لم تفتح له أغـلاق

أيروم مخلوق ثناءك بعـدمــا أثنى على أخلاقك الخـلاق

ويقصد بسائر أخباره: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم- في كل أحواله حركة، وسكوناً، ويقظة، ومناماً، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
أما حركاته: فهي وسائل تربوية: يقصد من ورائها شد انتباه المتلقي، ولفت نظره إلى أهمية ما يلقى عليه، ومن الأمثلة على ذلك:
1- قوله – صلى الله عليه وسلم – (التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره ثلاثاً)(4). فهذه الحركة المتمثلة في الإشارة أفادتنا أن محل التقوى هو القلب.
2- قوله – صلى الله عليه وسلم – (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، قال الراوي: وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ثلاثاً، حتى قلنا: ليته سكت)(5).
فتغيير النبي - صلى الله عليه وسلم- من وضعه وحركته أفاد خطورة ما جاء بعدها، حتى يحذره القوم ويقدرونه قدره.
3- قول عبد الله بن مسعود: خط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطا مستقيما، ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها إلا عليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(6) سورة الأنعام: 153.
4- وعن ابن مسعود أيضاً قال: خطَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – خطاً مربعاً، وخطَّ خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به -، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)(7).
ففي هذين الحديثين استخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الرسم كوسيلة إيضاح لإيصال ما يريده إلى ذهن أصحابه، وهذا ما يأخذ به علماء التربية اليوم في التعليم والتلقي، وقد سبقهم إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منذ خمسة عشر قرناً من الزمان.


(1) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، وهو جزء من حديث طويل، ( 1739).
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم- ( 6102)، ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم ( 6032).
(3) المرجع السابق.
(4) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب والصلة، باب تحريم ظلم المسلم من حديث طويل 2/424.
(5) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور،( 2654) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها ( 259).
(6) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/465، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير ( 2/318) وقال: صحيح ولم يخرجاه.
(7) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله ( 6417).

بلعاوي
21-04-2011, 04:09 AM
السنة في اصطلاح الأصوليين (4)


ويقصد بصفاته – صلى الله عليه وسلم – الخَلقية: ما يتعلق بذاته وتكوينه، ومن أمثلة ذلك:
1-حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه- قال:
(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)(1).
2-حديث البراء أيضاً، قال:
(كان النبي - صلى الله عليه وسلم- مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه)(2).
3-حديث أنس - رضي الله عنه-، قال:
(ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم-، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط أطيب من ريح أو عرف النبي - صلى الله عليه وسلم-)(3).
ويطرح أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين سؤالاً له وجاهته، ويجيب عنه فيقول – حفظه الله-: " قد يسأل سائل: كيف نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم- من السنة مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله تعالى، ونحن لا نتعلم السنة إلا لكي نقتدي برسولنا - صلى الله عليه وسلم- ونتبعه في هديه كله ؟.

والجواب من عدة وجوه:
أولاً: لكي نعلم الصفات الخلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فلا يعقل أن يكون هو رسولنا الذي هدانا الله تعالى به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، ثم لا نعلم ما هي الهيئة الخلقية التي أوجده الله تعالى عليها.
ثانياً: حتى يتأكد لنا أن الله تعالى قد خلقه على أحسن هيئة وأكمل صورة بشرية – كما خلقه أيضاً بريئاً من العيوب الخلقية – حتى تجتمع القلوب حوله، وهذا يعتبر من الأدلة على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم-، لأن الله تعالى قد برأ الأنبياء جميعاً من أي عيب خلقي.
ثالثاً: لكي يتأكد لنا أن الله تعالى قد أوجده على نفس الهيئة وبنفس الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليل واضح على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم-، ولعل ما ورد في كتب السيرة من قصة بحيرا الراهب الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- في صباه في الثانية عشرة من عمره أثناء رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب، وعرف بحيرا الراهب أنه النبي المنتظر بجملة من العلامات ذكرت له في الكتب السابقة، من بينها خاتم النبوة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم-، والخاتم هذا أمر خلقي عرف به بحيرا أنه - صلى الله عليه وسلم- هو النبي المنتظر.
وقد ذكر القرآن الكريم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، فقال عز من قائل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الأعراف: 157.

وقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب عدم اتباعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم- مع تأكدهم من صدق رسالته، بل ومعرفتهم به كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك كتموا الحق الواضح الصريح وهم يعلمون، قال تعالى:(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة: 46.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية:
(يخبر تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم- كما يعرف أحدهم أولاده، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والإتقان العلمي (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم- (وَهُمْ يَعْلَمُونَ))(4).
رابعاً: ومن الأسباب التي تجعلنا نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم- من السنة أيضاً، ما حاوله بعض أعداء الإسلام من إلصاق بعض الصفات غير الحقيقية به - صلى الله عليه وسلم-.
ومعرفتنا بصفاته الخلقية تجعلنا ندافع عنه ونحن في موقف القوة والثبات؛ لأنه ثبت بكل الأدلة كمال خلقته - صلى الله عليه وسلم-.
خامساً: نتعلم صفاته الخلقية ونعتبرها من السنة حتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداء به منها، مثل صفة لحيته - صلى الله عليه وسلم- " (5).

(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم- ( 3549) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجهاً ( 6066).
(2) المرجع السابق.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم- ( 3561) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم- ولين مسه والتبرك بمسحه ( 6053).
(4) تفسير ابن كثير 1/194.
(5) تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير 1/21، 22.

بلعاوي
09-06-2011, 06:23 PM
السنة في اصطلاح الأصوليين (5)

وأما سكوته: فإننا نستفيد منه أحكاماً شرعية، ومثال ذلك:
ما رواه البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: (خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جنازة فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا كأن على رءوسنا الطير)(1).
ففي هذا الحديث مشروعية السكون والسكوت عند دفن الموتى من أجل العظة والاعتبار.
وأما ما كان في يقظته فلا إشكال فيه – كما يقول أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين – لأن أمر النبوة واضح أثناء اليقظة.
لكن الذي يستشكل على البعض فهو ما يراه – صلى الله عليه وسلم – في نومه، وكيف هو من الوحي؟ بل كيف هو من السنة الواجبة الاتباع؟ خصوصاً وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علمنا أن النائم غير مكلف في ما ورد من قوله – صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يصح، وعن الصبي حتى يحتلم)(2).

وإليك الجواب:
قامت الأدلة من القرآن والسنة – على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى إليهم، ففي القرآن الكريم نجد غلاماً حليماً في أوائل العقد الثاني من عمره، قد فقه بالبداهة والفطرة: أن الرسول رسول حتى في نومه، فالنوم لا يمكن أن يخرج الرسول عن رسالته ولو قال الرسول: إني أرى مناماً، فقل له: هذا أمر من الله واجب التنفيذ والطاعة والتسليم، كما قال الغلام الحليم إسماعيل لأبيه الخليل إبراهيم - عليهما وعلى جميع المرسلين الصلوات والتسليم- حين قال له كما حكى القرآن: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) سورة الصافات: 102.
ومما يختص برسولنا – صلى الله عليه وسلم – مما جاء في القرآن الكريم، قول الله تعالى في سورة الأنفال: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً....) الآية. سورة الأنفال، 43.
فالآية واضحة الدلالة في أن ما يراه النبي – صلى الله عليه وسلم – في نومه من رؤيا إنما هو من عند الله تعالى، وليس من أي جهة أخرى، (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ).
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة الفتح:
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)، سورة الفتح، 27.
فإذا انتقلنا إلى السنة المطهرة فسنجد أدلة كثيرة على ذلك.
من بينها ما جاء في صحيح البخاري - رحمه الله تعالى- بسنده إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- قالت: (أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)(3).
فالحديث ينص صراحة على أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم- من الوحي، وأنه كان لا يرى شيئاً إلا جاء واضحاً جلياً مثل ضوء النهار.
ولقد لفت نظري وأنا أتتبع ما أراه الله تعالى للنبي – صلى الله عليه وسلم– في نومه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يبدأ حديثه غالباً عن الرؤيا في نومه بقوله: (أريت كذا) أو (أريتكم...)، فالفعل في أول الحديث يأتي بالبناء للمجهول ليدلنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لا يرى من قبل نفسه، وإنما هناك من يريه وهو الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مخاطباً السيدة عائشة: (أريتك في المنام مرتين: إذ رجل يحملك في سرقة من حرير. فيقول: هذه امرأتك فاكشفها فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه)(4).
ولقد كانت هذه الرؤيا – وغيرها – من عند الله تعالى فأمضاها – سبحانه-، وكانت السيدة عائشة من أزواجه أمهات المؤمنين.
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما خاطب به النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه قائلاً فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: (أريتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد ". وزاد مسلم من حديث جابر " أن ذلك كان قبل موته – صلى الله عليه وسلم – بشهر)(5).
فالحديث كما نلاحظ قد بدأ بقوله: (أريتكم) بالبناء للمجهول، ولأن علماء الحديث – وكل علماء الإسلام – يعلمون أن ما يراه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في نومه هو من وحي الله تعالى، فقد أخذوا من الحديث المذكور درساً عظيماً، وهو أن من بين الأدلة على إثبات الصحبة أن يكون الصحابي قد عاش قبل عشرة ومائة للهجرة، فمن جاء بعدها وزعم أنه صحابي فإننا نرد قوله أخذًا من هذا الحديث الشريف.
على أنه - صلى الله عليه وسلم- قد يبدأ حديثه عما يراه في نومه بقوله: (رأيت) وذلك في القليل النادر.
ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في رؤيته عن هجرته إلى المدينة (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فَذَهَبَ وَهْلِي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)(6). ووَهْلِي أي: ظني.
ورغم التعبير بقوله: (رأيت) إلا أن ذلك أيضاً من الله تعالى ؛ بدليل أنه – صلى الله عليه وسلم – ما كان له أن يحيد عن المدينة (كدار) للهجرة ويهاجر إلى غيرها؛ لأن المدينة هي المكان الذي اختاره الله تعالى له، فلا يتركه أبداً إلى غيره.
وقد وردت هذه الرواية عند البيهقي مبتدئة بقوله – صلى الله عليه وسلم -: (أريت دار هجرتكم)، وهي بذلك تلتقي مع الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.
إن كل ما سبق يعطينا الدليل الأكيد على أن ما يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والأنبياء جميعاً أثناء النوم من الوحي الذي نلتزم به.

ومن الأدلة العقلية على ذلك: أن ما يراه الناس في نومهم إما أن يكون من الله تعالى أو من الشيطان؛ كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه، فلينفث عن شماله ثلاثاً وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره)(7).
والشيطان – كما نعلم – ليس له سلطان على الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد عصمهم من كيده فلن يأتيهم في نومهم، ولقد نزع الله تعالى حظ الشيطان من نبينا – صلى الله عليه وسلم – في مرحلة مبكرة من عمره – وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، فحفظه بذلك من وسوسة الشيطان.
فقد روى مسلم بسنده إلى أنس بن مالك: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتاه جبريل - عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(8).
فنحن نرى أن الله تعالى قد طهر قلب نبيه – صلى الله عليه وسلم – منذ صغره، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، وما دام الأمر كذلك فإن ما يراه في نومه ليس من قبيل الشيطان أبداً، وإنما هو وحي من الله تعالى(9).



(1) الحديث أخرجه النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز ( 2003)، وابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر ( 1548).
(2) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود 4/389، وقال: صحيح الإسناد.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي ( 3) ومسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (403).
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم- عائشة ( 3895).
(5) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم-: " على رأس مائة سنة لا يبقى نفس منفوسة... " ( 6479، 6481).
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم- 2/331، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم- ( 5934).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده ( 3292)، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا باب في كون الرؤيا من الله، وأنها جزء من النبوة، (5897).
(8) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفرض الصلوات ( 413).
(9) تيسير اللطيف الخبير، ص: 25-27

بلعاوي
28-06-2011, 04:08 PM
السنة في اصطلاح الأصوليين (6)

* بقي من جزئيات التعريف قولنا: (سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها).

أي: أن ما صدر عنه – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة أم بعدها داخل في إطار السنة، وقد لا يستشكل الأمر بالنسبة لما كان بعد البعثة؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – صار بعدها رسولاً، وصرنا مأمورين بالاقتداء به، امتثالاً لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورة الأحزاب: 21. أما قبل البعثة، فلم يكن الوحي ينزل عليه،ولم نكن مأمورين بالاقتداء به، فكيف تعد أحواله قبل البعثة من السنة؟.
والجواب:
أن أحواله، وصفاته، وأخلاقه، قبل البعثة دليل أكيد على نبوته، وأمارة صدق على رسالته، فهي داخلة في مفهوم السنة، فقد كان يتحنث (يتعبد) في الجاهلية في غار حراء، وكانت الأحجار والأشجار تسلم عليه، واشتهر بالصدق والأمانة.
وهذه الصفات، وتلك الأخلاق، كانت الركائز الأساسية التي اعتمد عليها وهو يدعو قومه.
فمثلاً شهرته بالصدق والأمانة قبل بعثته كان دليلاً قوياً على صدق رسالته، وجعل الكفار يعجزون عن اتهامه بضد هذه الصفات، ولقد قالوا عنه: إنه ساحر، أو كاهن، ولكنهم لم يجرءوا أبداً على اتهامه بعكس الصدق والأمانة، وهذا ما اعتمد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في إثبات صدق نبوتهحينما نزل عليه الأمر الإلهي: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأََقْرَبِينَ) سورة الشعراء: 214.
فقد صعد على الصفا ونادى قبائل قريش جميعاً – حتى إذا اجتمعوا – بدأ حديثه معهم قائلاً: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... )(1).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يبدأ حديثه معهم بالإنذار مباشرة، وإنما أخذ منهم إقراراً بصدقه – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، إذن فهو صادق اليوم في رسالته.
وهذا – أيضاً – هو الذي اعتمد عليه هرقل ملك الروم في إثباته لصدق نبوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قصة طويلة ذكرها البخاري وغيره – أثناء حديث هرقل مع أبي سفيان – حينما سأل أبا سفيان الذي كان لا يزال حتى وقت سؤال هرقل له مشركاً(2).
لقد جاء كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام – فأراد أن يعرف بعض أحوال هذا النبي الجديد – فجاءوا له بأبي سفيان فسأله هرقل عن كثير من أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة، وأيضاً سأل عما يدعو إليه بعد البعثة، وفي نهاية اللقاء قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)(3).
ولقد صدقت توقعات هرقل، فبعد مضي ما لا يزيد على سبع سنوات فتح الله بلاد الشام للمسلمين بعد أن كان يحكمها الروم، وخرج هرقل من حمص التي كان يقيم بها.
والمهم في ذلك كله أن كثيراً من أحواله – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة تعطي الأدلة الواضحة على صدق رسالته بعد البعثة، وهذا ما جعل العلماء يعتبرونها جزءاً من السنة.
وإذ قد انتهينا من تعريف السنة وشرح متعلقاتها، فإننا – بعون الله وتوفيقه – ننتقل إلى التعريف ببقية المصطلحات الأخرى التي تشترك معها لنكشف عن معناها، ونوضح علاقتها بالسنة اتفاقاً واختلافاً، وتلك المصطلحات هي: الحديث – الخبر – الأثر.

أ – معنى الحديث(4):

الحديث في اللغة له معانٍ ثلاثة:
الأول: الحديث بمعنى الجديد الذي هو ضد القديم، يقال لبست ثوباً حديثاً، أي: جديداً، وركبت سيارة حديثة، تعني: سيارة جديدة.
الثاني: الحديث بمعنى الكلام، ومنه قوله تعالى: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباًً ) سورة الزمر: 23، أي: نزل أحسن الكلام، وقوله تعالى: [ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ] سورة المرسلات: 50، أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم، فبأي كلام بعده يؤمنون.
الثالث: الحديث بمعنى الخبر والنبأ، ومنه قوله تعالى: [ هل أتاك حديث موسى ] سورة النازعات: 15، وقوله تعالى: [ هل أتاك حديث الغاشية] سورة الغاشية: 1.

الحديث اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
1- قال جمهور المحدثين: هو: أقوال – النبي – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية، وسائر أخباره، سواءً كانذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
وعليه يكون الحديث شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، لكن جرى اصطلاح المحدثين على أن الحديث إذا أطلق ينصرف إلى ما جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – ولا يستعمل في غيره إلا مقيداً.
2- وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(6).
وعليه يكون مقصوراً على المرفوع فقط، ويكون مرادفاً للسنة على القول الأول.
3- وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم- خاصة(7).
فيكون مقابلاً لتعريف السنة على رأي من يعرفها بأنها: الطريقة العملية المتواترة التي بين بها النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن. وكأن صاحب هذا التعريف استند في تقريره إلى المعنى اللغوي الثاني. وهو أن الحديث يطلق على الكلام قل أم كثر.
وفي ضوء هذا التعريف نستطيع فهم كلمة الإمام عبد الرحمن بن مهدي حينما سئل عن الأئمة: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة فقال: " الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما ".
وإجابة عبد الرحمن بن مهدي واضحة الدلالة على أن السنة – في مثل هذا الاستعمال – إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعالهوتقريراته(8).
على أن هذا التفريق لم يعش طويلاً فيما بعد، وأضحت الكلمتان مترادفتين، ولا يذكر هذا التفريق إلا من أجل فهم مثل العبارة الواردة عن ابن مهدي والتي ذكرناها آنفاً(9).
وفي هذا يقول الدكتور/ صبحي الصالح: (ولئن أطلقت السنة في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فإن الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على – الأقل – كان دائماً يساور نقاد الحديث، فهل السنة العملية إلا الطريقة النبوية التي كان الرسول – صلوات الله عليه – يؤيدها بأقواله الحكيمة، وأحاديثه الرشيدة الموجهة؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السنة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أخيراً إلى النبي الكريم في أقواله المؤيدة لأعماله، وفي أعماله المؤيدة لأقواله؟.

حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النقاد لم يجدوا بأسا في أن يصرحوا بحقيقة لا ترد: إذا تناسينا موردي التسميتين كان الحديث والسنة شيئا واحداً، فليقل أكثر المحدثين: إنهما مترادفان "(10).




(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، تفسير سورة الشعراء (4770) ومسلم، في الصحيح، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: [ وأنذر عشيرتك الأقربين ] (508).
(2) كان سؤال هرقل في السنة السابعة للهجرة، وأسلم أبو سفيان بعد ذلك في السنة الثامنة عند فتح مكة.
(3) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم (7).
(4) ينظر: الصحاح للجوهري، مادة (حدث) 1/278، ولسان العرب، نفس المادة 2/796، والقاموس المحيط، نفس المادة 1/170.
(5) ينظر: الخلاصة للطيي، ص: 30، وشرح شرح النخبة لملا علي القاري، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي، ص: 24، وظفر الأماني، ص: 32.
(6) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي، 1/42، ظفر الأماني، ص: 32.
(7) ينظر: تحقيق معنى السنة، وبيان وجه الحاجة إليها، ص: 12-23بتصرف كثير.
(8) ينظر: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/3).
(9) الحديث النبوي للدكتور الصباغ صـ 146.
(10) علوم الحديث ومصطلحه صـ 9، 10.