~ عدن ~
15-08-2009, 08:11 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
معالجة الخواطر السيئة
للامام ابن القيم رحمه الله وغفر له
(من كتاب الفوائد)
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها الى الفكر،فيأخذها الفكر فيؤديها الى التذكر. فيأخذها الذكر فيؤديها الى الارادة، فتأخذها الارادة فتؤديها الى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. فانها تهجم عليه هجوم النفس، الا ان قوة الايمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له, وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله، ان أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب اليه من أن يتكلم به، فقال:"أوقد وجدتموه؟" قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الايمان" مسلم في الايمان 1\119 رقم209. وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة". أبو داود في الأدب باب رد الوسوسة 4\329 330 رقم 5112.
وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريح الايمان. والثاني: أن وجوده والقاء الشيطان له في النفس صريح الايمان, فانه انما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الايمان وازالته به.
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فان وضع فيها حب طحنته، وان وضع فيها تراب أو حصى طحنته. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره, وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك، فاذا جاء وقت تاعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه.
فاذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وان قبلته صار فكرا جوّالا، فاستخدم الارادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح، قان تعذّر استخدامها رجعا الى القلب بالتمني والشهوة، وتوجهوا الى جهة المراد. ومن المعلوم أن اصلاح الخواطر أسهل من اصلاح الأفكار, واصلاح الأفكار أسهل من اصلاح الارادات، واصلاح الارادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر في ما لا يعني باب كل شر، ومن فكّر فيما لا يعنيه، فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما ما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر، والارادة والهمة أحق شيء باصلاحه من نفسك، فان هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب بها من الهك ومعبودك الذي لا سعادة لك الا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره الا كذلك.
وايّاك أن تمكّن الشيطان من بيت أفكارك واراداتك، فانه يفسدها عليك فسدا يصعب تداركه، ويلقي اليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك، بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك. فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيّد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر فحم وغثاء ليطحنه في طاحونه، فان طرده ولم يمكنه من القاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه, وان مكّنه من القاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك, وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون. أن فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام، أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل، أو فيما لا سبيل الى ادراكه من أنواع ما طوى عنه علمه، فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية، ولا يقف منها على نهاية، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.
وجماع اصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده الى دخول الجنة والنار. وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها. وفي باب الارادات والعزوم أن تشغل نفسك بارادة ما ينفعك ارادته، وطرح ارادة ما يضرك ارادته. وعند العارفين أن تمنّى الخيانة واشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما اذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها، فان تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده.
دافع الخطرة، فان لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة، فان لم نفعل صارت شهوة. فحاربها، فان لم تفعل صارت عزيمة وهمّة، فان لم تدافعها صارت فعلا، فان لم تتداركه بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
معالجة الخواطر السيئة
للامام ابن القيم رحمه الله وغفر له
(من كتاب الفوائد)
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها الى الفكر،فيأخذها الفكر فيؤديها الى التذكر. فيأخذها الذكر فيؤديها الى الارادة، فتأخذها الارادة فتؤديها الى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فرّدها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. فانها تهجم عليه هجوم النفس، الا ان قوة الايمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له, وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: يا رسول الله، ان أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب اليه من أن يتكلم به، فقال:"أوقد وجدتموه؟" قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الايمان" مسلم في الايمان 1\119 رقم209. وفي لفظ "الحمد لله الذي رد كيده الى الوسوسة". أبو داود في الأدب باب رد الوسوسة 4\329 330 رقم 5112.
وفيه قولان: أحدهما: أن رده وكراهته صريح الايمان. والثاني: أن وجوده والقاء الشيطان له في النفس صريح الايمان, فانه انما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الايمان وازالته به.
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فان وضع فيها حب طحنته، وان وضع فيها تراب أو حصى طحنته. فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره, وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك، فاذا جاء وقت تاعجن والخبز تبيّن له حقيقة طحينه.
فاذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده, وان قبلته صار فكرا جوّالا، فاستخدم الارادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح، قان تعذّر استخدامها رجعا الى القلب بالتمني والشهوة، وتوجهوا الى جهة المراد. ومن المعلوم أن اصلاح الخواطر أسهل من اصلاح الأفكار, واصلاح الأفكار أسهل من اصلاح الارادات، واصلاح الارادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد. فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر في ما لا يعني باب كل شر، ومن فكّر فيما لا يعنيه، فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما ما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر، والارادة والهمة أحق شيء باصلاحه من نفسك، فان هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب بها من الهك ومعبودك الذي لا سعادة لك الا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره الا كذلك.
وايّاك أن تمكّن الشيطان من بيت أفكارك واراداتك، فانه يفسدها عليك فسدا يصعب تداركه، ويلقي اليك أنواع الوساوس والأفكار المضرّة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك، بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك. فمثلك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيّد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر فحم وغثاء ليطحنه في طاحونه، فان طرده ولم يمكنه من القاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه, وان مكّنه من القاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك, وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون. أن فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام، أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل، أو فيما لا سبيل الى ادراكه من أنواع ما طوى عنه علمه، فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية، ولا يقف منها على نهاية، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح همّه.
وجماع اصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده الى دخول الجنة والنار. وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها. وفي باب الارادات والعزوم أن تشغل نفسك بارادة ما ينفعك ارادته، وطرح ارادة ما يضرك ارادته. وعند العارفين أن تمنّى الخيانة واشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما اذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها، فان تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده.
دافع الخطرة، فان لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة، فان لم نفعل صارت شهوة. فحاربها، فان لم تفعل صارت عزيمة وهمّة، فان لم تدافعها صارت فعلا، فان لم تتداركه بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.