الإسلام علم وحضارة
الطاقة الإيمانية لتنمية المعرفة
ما أجمل أن يكون العطاء مصحوبا دائما بالقيم النبيلة والمبادئ السامية حتى يؤتي ثماره المرجوة لخير الناس وإسعاد النفوس وتحقيق الفوز في الداريْن. هذا هو ما يميز العطاء العلمي والتقني للحضارة الإسلامية عن كل ما سواها من حضارات قامت على مر العصور. وهذا ما يجعلنا نؤكد دائما أن هناك “علما إسلاميا” و”تقنية إسلامية” و”فكرا إسلاميا” يميز أتباع الدين الإسلامي ويؤكد خصوصيتهم في الجمع بين مصدريْ المعرفة في القرآن والكون، وتسخير هذه المعرفة لنفع الناس وإعمار الحياة على الأرض تنفيذا لمشيئة الخالق الواحد سبحانه وتعالى. فالأمة الإسلامية هي حاملة رسالة الهدى والنور إلى البشرية كافة، وقد قامت بدورها في عصور الازدهار الإسلامي بتصحيح مسار الحضارة الإنسانية، ورفعتها إلى آفاق أسمى وأرحب، وزودتها بالمنطلقات التي تقف اليوم خلف كل إنجازات الحضارة الإنسانية المعاصرة.
نعم.. كان العلم الإسلامي محروسا بالإيمان الخاص في صدور العلماء الذين كانوا يحرصون على أن يفيدوا من علمهم في تعميق إيمانهم وزيادة تقربهم إلى خالقهم، التزاما منهم بروح الشريعة الغراء، وتمسكا بثوابتهم الإسلامية مهما استغرقوا في علوم الآخرين وثقافاتهم. ومنهم أبو علي الحسين ابن سينا الذي ولد في إحدى ضياع “بخارى” سنة 371ه/980م ونشأ في بيئة طيبة فحفظ القرآن الكريم وأتقن اللغة العربية وهو في العاشرة من عمره، وتعمق في علوم الشريعة والحكمة فضلا عن علوم الطب والطبيعيات، حيث يقول: “.. كلما كنت أتحير في مسألة، ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فُتح لي المغلق وتيسر المتعسر.. وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يديّ أشتغل بالقراءة والكتابة.. ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسألة بعينها، حتى إن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام”. ويذكر أن ابن سينا اتجه في أواخر حياته إلى قراءة القرآن الكريم وتفسيره، فكان يختمه مرة كل ثلاثة أيام، وتخلى عن الدنيا وحطامها، وتصدق بممتلكاته على الفقراء والمساكين، وتفرغ لعبادة ربه إلى أن وافاه الأجل المحتوم في يوم الجمعة الأول من شهر رمضان المعظم سنة 428ه/ 1037م.
وهذا هو أبو الريحان البيروني، مثال آخر لما كان عليه علماء المسلمين من ارتباط وثيق بكتاب الإسلام الخالد وما فيه من وصايا ومبادئ، فبالرغم من أنه فارسي الأصل، إلا أنه كان شديد الإيمان بدينه الإسلامي وبانتمائه العربي، وكان يحرص على تحصيل المعرفة أنى وجدها، ويرى العلم عبادة، ويسعى إلى الإلمام بدقائق الفقه وأصوله. يؤثر عنه قوله: “ديننا والدولة العربية توأمان ترفرف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الآخر اليد السماوية.. وإن الهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية”. وحدث أحد الفقهاء عن معارف البيروني في الفقه وحبه للعلم فقال: “دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، فقال لي: كيف قلت لي يوما حساب الجدات الفاسدة (أي سأله عن مسألة في علم المواريث تتعلق بميراث الجدة لأم)، فقلت -إشفاقا عليه-: أتسأل عن هذه المسألة وأنت في هذه الحالة يا أبا الريحان؟ قال لي: يا هذا، لئن ألقى الله وأنا عالم بها خير من أن ألقاه وأنا جاهل بها. فأعدت ذلك عليه وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت صوت الصراخ”. رحم الله أبا الريحان البيروني.. كان مثالا للعالم المؤمن الموصول بخالقه.. وبهدْي الذكر الحكيم.. يروى أن السلطان محمود الغزنوي استقبل وفدا من قِبل سلطان أتراك الفولجا سنة 1024م، وكانت لهؤلاء الأتراك صلات تجارية مع سكان المناطق القطبية الشمالية. وأثناء اللقاء ذكر رئيس الوفد أن في أقصى الشمال من الأرض تبقى الشمس مشرقة شهورا متوالية، لا تكاد تغيب فيها إلا لتشرق من حيث غربت، وتغيب الشمس شهورا أخرى متوالية لا يرى فيها لها شروق. فيكون النهار نصف عام، والليل نصف عام، فأغضب هذا الأمر السلطان الغزنوي غضبا شديدا واتهم الوفد بالكفر والإلحاد، وكان البيروني مطرقا يفكر، فالتفت إليه السلطان وسأله عن رأيه فيما سمعه، فقال له البيروني: “يا مولاي، الأتراك لم يكذبوا في خبرهم هذا، وفي كتاب الله مصداق ما قالوه عن هذه الظاهرة الشمسية. يقول سبحانه: “حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا” (سورة الكهف: 90) وبالوسع يا مولاي تعليل هذا القول جغرافيا إذا وضعنا كرة تمثل الأرض وأدرناها أمام مصباح”، عندئذ هدأ غضب السلطان.
منقـــول ...