والدي العزيز - رحمه الله - كان يصرّ في تمام الساعة الثامنة ( موعد نشرة الأخبار ) على الهواء مباشرة من مدينة عمّان ، على الهدوء التام وعدم القيام بأي شغب او ضجيج سواء كان نطنطنتنا نحن او ما يقوم به الكبار من أعمال البيت
كان يقول دوما ..اسكتوا ، بدنا نعرف ( وين احنا ) !
(وين احنا ) ..؟ لم أكن أفهم وربما الى الآن لم أفهم ماذا كان سيؤثر الوضع السياسي على أبي شخصيا أو على الأحوال كلها؟
( وين احنا ).... منذ حصة الجغرافيا الأولى في حياتي وانا مصلوبة على خارطة العالم العربي أحاول أن أحدّد مكاني ؟
ثم كان يتابع بجدية كل حرف يصدر من المذيع انتهاءا بالحالة الجوية ، حيث يختمها احيانا بقوله ، منخفض ضحل !! الله يستر ، ولا جدوى من اقناعه ان كلمة ( ضحل ) تعني ( بسيط ) ولكن يبدو ان وهج الكلمة يعطي اكثر من هذه البساطة.
في فقرة النشرة الجوية بالذات كان والدي يبدأ في استعراض فراسته ويشارك المذيع نشرته فأهل مكة أعلم بشعابها ، وقد خدم والدي - أيام الجيش - في كل مدن وقرى وضواحي الاردن العامر وكانت له استشعارات حادة فيما يتعلق بالجو ، لن يفلح فيها المذيع بلغت ما بلغت ثقافته وبلاغته أن يحصل على اعجابه
لم أرث عن أبي متابعة نشرة الأخبار .. ولكني ورثت عنه الفراسة
واحاول ان استعرض هذه الفراسة في كل الصور التي أراها والأحاديث التي أسمعها لألتقط بكاميرتي الخاصة صورا مختلفة للنفس البشرية ، محط اهتمامي الحثيث منذ عدة سنوات
كان لا بد أن أدخل الى الموضوع من هذه المقدمة التوضيحية رغم انني أكثر الناس مقتا للمقدمات والديباجات ، فالكلام عفو الخاطر هو الاسلوب الصحيح ، ببساطة ، هذا الموضوع ليس سياسيا ، لأن الاحداث تحدث لوحدها دون تحليلنا ولا مراقبتنا ولا تصويرنا كما انها تستقر لوحدها دون فراستنا ،
أما انا ، فأقوم برصد الظواهر الانسانية .
من حق المرء ان يفرغ ما في نفسه ، دون عنف !
كان هذا ما قالته وزيرة الخارجية الفرنسية احتجاجا على أن اساليب منع التظاهر في الشرق الاوسط أدت الى سقوط قتلى .
ربما لا تعرف هذه الوزيرة الارستقراطية ان معظم البشر يعانون من بئر الحرمان العميق والذي يجعلهم يتخيلون اي مطلب لهم - مهما كان صغيرا - جبل شامخ لا يمكن الوصول اليه الا بزلزال او كارثة ، بعد ان أكثروا من التلميح ..ولم يعد ينفع التوضيح ....و بعد أن ملّوا تسلق الجبال والتعثر بين احجارها باحثين على ما يتكئون عليه في لحظات وقوفهم ، وعادة ما كانت تنتهي رحلاتهم هذه اما بالسقوط المريع الى القاع ، او بالتعب والاعياء الشديد وامضاء ما تبقى من العمر حيث اتكأوا !
عندما يصل المرء الى مرحلة تزايد الاحتياجات وتضخمها مع عدم القدرة على مجرد التعبير عنها - انسى المطالبة بها -
يقف علنا ليفجر نفسه التي لا تكف عن مطالبته بحقوقها ، محملا العالم بأسره ذنب احتياجاته التي لم يستمعوا اليها ،
عادة ما يفعل المرء ذلك للتعبير عن نفسه والتخلص من الحاحها عليه بالسعي للمطالبة بحقوقها وتحقيقها مع عجزه عن ذلك ،
ولا اعتقد ان هناك من يفعل هذا بنفسه من اجل - الآخرين - فلا زلت الى الآن اعتبر مسألة ان يلقي الانسان بنفسه ضحية ، من اجل حقوق غيره ..قمة في الغباء.
لماذا هناك أناس لا يستطيعون التعبير عما يريدونه الا ب ( هزّ البدن ) وهذه الصور المروعة ؟
ولماذا نجد دوما من يطلب منا ضبط النفس والمطالبة بحقوقنا بإسلوب أقل ضراوة ؟
اعتقد أن المسألة فردية - وليست قومية
بعض الأشخاص اعتادوا ان يخجلوا من ان يكون لديهم احتياجات
بعض الأشخاص لا يستطيعون الحديث عما يخصهم وعما يحتاجونه
بعضهم يظنون ان كل شيء كثير عليهم
بعضهم اعتادوا ان تؤخذ منهم حقوقهم وكل ما يخصهم واعتادوا على الاستسلام خوفا من المشاكل
بعضهم من كانوا يحرمون من اقل القليل
وينتهي بهم الامر ..الى تضخم هذه الاحتياجات وتفجرها أخيرا
* بئر حرمان * مثل باقي الآبار البركانية التي لا تظهر للعيان الا بانفجار صاعق
شيء ليس من السهل علاجه ابدا ، فهو يخص " الطبقة الأرضية الداخلية " في نفوسنا
واي حركة هناك تؤدي الى كارثة ، وهكذا نرى الجيولوجيين لا يعنون بعلاج هذه البقاع أكثر مما يعنون بتحديدها مكانيا وزمنيا لمعرفة متى يتوقعون انفجارها
تخفيفا لعدد الضحايا .
وعلى هذا ، أتقدم باقتراح على مائدة المفاوضات الدولية اقترح ايضا - أن تتولاه جمعية هيئة الامم المفوضة بحل النزاع بين اطراف العالم
بحيث تنشأ جمعية فرعية من علماء السياسة الذين يتميزون بحصولهم على شهادة في علم الأرض ، بولي جيولوجيا ، وترجمته في اللغة العربية ........( إذا الفرد يوما أراد الحياة )
هؤلاء يقومون برصد حالات الشعوب ديموغرافيا ، ليقدموا تقاريرا حول الفئات المحتمل حدوث ( بركان او زلزال قومي ) في أرضياتها
على ان يتم نشر هذه التقارير اسبوعيا لكي يتسنى لنا متابعة الارتفاع الطردي وأسبابه في - درجات حرارة البشر - ومحاولة تلافي اضرار الانفجارات الحارقة للحمم العصبية والنفسية المضطهدة والمضغوطة .
أرجو الا يظنّ احدهم أنني اقدّم شعارات خاصة ، فقد فاتتني حملة الانتخابات البرلمانية ، وليس عندي (عين) على أي مقعد شاغر هنا أوهناك !
ثم أنني لست ممن يرشحون انفسهم ليختارهم الناس ، غروري المتواضع لا يرضى بالسعي الى اي منصب .
وليست لدي أية نشاطات أو حياة سياسية ، ولكنني على ضوء حياتي المهنية والعملية والشخصية ، معظم المقاعد التي تم إجلاء اصحابها عنها كانت في أجواء( بمنتهى العنف ) ، و سؤالي الآن موجها الى خارجية فرنسا ...لطفا ، كيف يكون التظاهر بدون عنف ؟ ونحن قوم قد تشربنا - حتى النخاع - كلمات ابي القاسم الشابي...ولا بد للقيد ان ينكسر .......
كيف تنكسر القيود ... بدون عنف ، اذا كان أصحاب هذه الأغلال لا يريدون تسليمنا مفاتيحها ؟
لنعود الى اقتراحي الهام وانسوا شطحاتي الأخرى ، ونزعتي اللئيمة الى السخرية الحادة و التي يبدو انني لن اتمكن يوما من السيطرة عليها ،
لماذا لا نتبنى نظرية البولي - جيولوجيا ، شخصيا في نفوسنا ، فنراقب سير القنوات البركانية داخلنا قبل ان تمتلئ بالحمم النارية ... ويصبح الأمر خارج السيطرة !؟