العرب عالجوا الإنفعالات النفسية : ( 10 )
إذا كان حكماء العرب قد منحوا الجسم الإنساني المزيد من الإهتمام ، وحذقوا في معالجة أمراضه ، أوجدوا لهذه المعالجة الأدوية والعقاقير ، فإنهم لم يهملوا أيضا مداواة الإنفعالات النفسية والعقلية ، فدرسوها دراسة جدية ، وأوجدوا لها الأدوية والعقاقير ، بعد أن عرفوا أسبابها وعللها وتفاعلها ، واستجاباتها ، معرفة لا تقل عنها في هذه الأيام المتطورة .
ولا يغرب عن بالنا أن فلاسفة العرب قد وجهوا جل اهتمامهم للعناية بالإنفعالات النفسية الخلقية المرتبطة بالغضب ، والحقد ، والحسد ، والبخل ، والشره ، والرياء ، والكبر ، والخوف ، والقلق ، والغرور والجبن . ويكاد يكون كل ما أشاروا إليه من علاج لهذه الإنفعالات كافيا شافيا لغليل العلماء والباحثين . وخاصة ما ذكره ابن سينا ، وابن مسكويه ، والراغب الإصفهاني ، والغزالي ، ومحيي الدين بن عربي ، وغيرهم كثيرين .
وعلى سبيل المثال لا الحصر نقدم بعض الأمثلة من هذه الآراء للإستدلال على ما قاله هؤلاء الحكماء حول انفعال الغضب باعتباره مقدمة الإنفعالات المضرة بالجسم والعقل ، المبعدة للسلوك عن جادة الصواب .
يقول ابن مسكويه في بيان تأثير الغضب في الجسم والعقل : (( الغضب في الحقيقة هو حركة للنفس يحدث لها غليان دم القلب شهوة للإنتقام ، فإذا كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب وأضرمتها ، فاحتد غليان دم القلب ، وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ، ويضعف فعله ، ويصير مثل الإنسان عند ذلك ــ على ما حكته الحكماء ــ مثل كهف مليء حريقا ، وأضرم نارا ، فاختنق فيه اللهب والدخان ، وعلا التأجج والصوت المسمى وحي النار ، فيصعب علاجه ، ويتعذر اطفاؤه ، ويصير كل ما يدنيه للإطفاء سببا لزيادته ، ومادة لقوته فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ، ويصم عن الموعظة ، بل تصير المواعظ في تلك الحال سببا للزيادة في الغضب ، ومادة اللهب والتأجج ، وليس له في تلك الحال حيلة ، وإنما يتفاوت الناس في ذلك حسب المزاج )) .
وينتقل ابن مسكويه ليحدثنا عن مدى تأثير الغضب في السلوك الإنساني فيقول : (( فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ، ثم على إخوانه ، ثم على الأقرب فالأقرب من معامليه ، حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه ، فيكون عليهم سوط عذاب ، ولا يقيلهم عثرة ، ولا يرحم لهم عبرة ــ وإن كانوا براء من الذنوب ، غير مجترمين ولا مكتسبين سوءا ، بل يجرم عليهم ، ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم ، حتى يبسط لسانه ويده ، وهم لا يمتنعون منه ، ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم ، بل يذعنون له ، ويقرون بذنوب لم يقترفوها ، استكفافا لشره ، وتسكينا لغضبه ، وهو مع ذلك مستمر على طريقته ، لا يكف يدا ولا لسانا .
وربما تجاوز في هذه المعاملة الناس إلى البهائم التي لا تعقل ، وإلى الأواني التي لا تحس ، فإن صاحب هذا الخلق الرديء ربما قام إلى الحمار والبرذون ، أو إلى الحمام أو العصفور ، فيتناولها بالضرر والمكروه ، وربما عض القفل إذا تعسر عليه ، وكسر الآنية التي لا يجد فيها طاعة لأمره ، وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من الجهال ، يستعملونه في الثوب ، والحديد ، وسائر الآلات .
أما الملوك من هذه الطائفة يغضبون على الهواء إذا هب مخالفا لهم ، وعلى القلم إذا لم يجر على رضاهم ، فيسبون ذاك ، ويكسرون هذا .
وكان بعض من تقدم عهده من الملوك يغضب على البحر إذا تأخرت سفينته فيه ، لإضطرابه وحركة الأمواج حتى يهدده بطرح الجبال فيه وطمه بها . وكان بعض السفهاء في عصرنا يغضب على القمر ، ويسبه ، ويهجوه بشعر له مشهور ، وذلك انه كان يتأذى به إذا نام فيه . وهذه الأفعال كلها قبيحة ، وبعضها من قبحه مضحك ، يهزأ بصاحبه ، فكيف يمدح بالرجولية والشدة وشرف النفس وعزتها ، وهي بالمذمة والفضيحة أولى منها بالمديح ؟ وأي حظ لها في العزة والشدة ؟ ونحن نجدها في النساء أكثر منها في الرجال ، وفي المرضى أقوى منها في الأصحاء ، ونجد الصبيان أسرع غضبا وضجرا من الرجال ، والشيوخ أكثر من الشبان .
وللحديث بقية .......
( من كتاب في سبيل موسوعة نفسية / الدكتور مصطفى غالب )