وأنواعه كما يلي:
الأول: الأخذ بالعيون وخفة اليد:
وهذا مبناه على أن أغلاط البصر كثيرة؛ فقد يرى الشيء على غير حقيقته لبعض الأسباب العارضة؛ فالبصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إِذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عملًا بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جدًا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إِلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إِلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله، وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل أشد، كان العمل أحسن؛ مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها [1]
الثاني: الاستعانة بخواص الأدوية والأطعمة والملابس:
ومن ذلك دخول بعض هؤلاء النار؛ حيث يدهنون جلودهم بمواد لها خاصية مقاومة النار، أو يلبس ثيابًا لا تحرقها النار، أو أن يجعل في طعام أحدهم بعض الأدوية أو الأطعمة المبلدة المزيلة للعقل، أو الدخن المسكرة التي تغير المزاج، فإذا تناولها تبلد عقله وذهبت فطنته، وقد يستعين بهذه الأدوية ونحوها في إمساك الحيات أو الأسود الضارية [2]
ومنه تغيير المشعوذ وجه إنسان من البياض إلى السواد، وهذه حيلة يقوم بها المشعوذ بدهن الوجه بمادة (أكسيد البزموت) ثم يضع أمام المشاهدين إناء مليئًا بالماء الممزوج بمادة الهيدروجين، ثم يدعي أنه يشم ذلك الماء فيتحول وجهه من البياض للسواد، وذلك نتيجة التفاعل الكيميائي بين المادتين. ومنه أن يأمر الساعة بالتوقف عن الدوران فتقف، فيشير إلى الساعة دون أن يلمسها ويخفي بيده مغناطيسًا، فتقف الساعة عن الحركة بتأثير المغناطيس [3]
الثالث: السعي بالنميمة وإغراء بعض الناس ببعض:
وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم النميمة بالعضه؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود قال: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس)، قال أبو الخطاب في عيون المسائل: "ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس" [4]
والنميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، "فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين؛ كما جاء في الحديث (ليس بالكذاب من ينمي خيرًا), أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب؛ كما جاء في الحديث (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة؛ جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، والله المستعان. [5]
الرابع: تعليق القلب:
وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإِذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء.
(قلت) هذا النمط يقال له التنبلة، وإِنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه؛ فإذا كان المتَنْبِلُ حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره. [6]
الخامس: البيان
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحرًا)، قال صعصعة بن صوحان: "صدق نبي الله؛ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق".
يعني لتضمنه التخييل، فيخيل الباطل بالحق، وإنما عنى بالبيان المفاخرة والخصومات بالباطل، كما يدل عليه أصل القصة في التميميين اللذين تفاخرا عنده بأحسابهما وطعن أحدهما بحسب الآخر ونسبه. وأما البيان بالحق لنصرة الحق فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع لذلك سبيلا[7]
وقد قسم بعض أهل العلم السحر إلى أنواع أخرى؛ منها: سحر الخمول, سحر الهواتف, سحر المرض، سحر المحبة (التولة)، سحر التفريق، سحر النزيف (الاستحاضة)، سحر التخييل، سحر الجنون، سحر تعطيل الزواج.
ومن أنواع السحر العقد والنفث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر)، ومن السحر: زجر الطير، والخط بالأرض، والطيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت)، رواه أبو داود وأحمد. والعيافة: هي زجر الطير والتفاؤل بأصواتها وممرها وبأسمائها, والطرق: هو الخط بالأرض، قال ابن الأثير: "هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء"، والطيرة: أصلها التطير بالطير والظباء، وهي من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، والجبت: هو السحر، قاله عمر رضي الله عنه، وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم [8]
فَهَذِهِ أَنْوَاعُ السِّحْرِ قَدْ تَقَعُ بِلَفْظٍ هُوَ كُفْرٌ، أَوْ اعْتِقَادٍ هُوَ كُفْرٌ، أَوْ فِعْلٍ هُوَ كُفْرٌ، فَالْأَوَّلُ: كَالسَّبِّ الْمُتَعَلِّقِ بِمَنْ سَبُّهُ كُفْرٌ، وَالثَّانِي: كَاعْتِقَادِ انْفِرَادِ الْكَوَاكِبِ أَوْ بَعْضِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالثَّالِثِ: كَإِهَانَةِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعْظِيمَهُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ؛ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَتَى وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي السِّحْرِ فَذَلِكَ السِّحْرُ كُفْرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ [9]، ومتى وقعت هذه الأنواع بشيء مباح، لم يكن ذلك السحر كفرًا، بل إما محرم؛ إن كان لا يروج ذلك المباح إلا بنحو الزنا واللواط, وإما مباح؛ إن راج بدون ذلك، نعم ويكون كفرًا من جهة خارجة كقصد إضراره صلى الله عليه وسلم [10]
يقول النووي: "علم السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا" [11]
حكم الساحر
الساحر كافر؛ والدليل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ**، وجه الدلالة: أن الآية تدل على نفي الإيمان عن السحرة، قال ابن كثير: وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ واتَّقَوْا** من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف [12]
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ** [البقرة: 102]، أي من استبدل بدينه السحر فماله من نصيب، قال الحسن: ليس له دين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم شيئًا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله)، وهذا مرسل [13]
وقال تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى** [طه: 69] وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نفى الفلاح عن الساحر نفيًا عامًا حيث توجه وسلك، وذلك دليل كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيًا عامًا إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ذلك أنه قد عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظه "لا يفلح" يراد بها الكافر؛ كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ** [يونس: 69], إلى غير ذلك من الآيات [14]، وقد سماه الله كفرًا فقال: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ** [البقرة: 102]
[1] ابن كثير, تفسير القرآن العظيم, (م/1, ص/203)
[2] أبو عبد الله الرازي, التفسير الكبير, (م/3, ص/212) بتصرف
[3] عالم السحر والشعوذة. د. عمر سليمان الأشقر.
[4]فتح المجيد.ص/253
[5]ابن كثير. تفسير القرآن العظيم, ج/1. ص/205
[6]ابن كثير. تفسير القرآن العظيم، ج/1. ص/204
[7]حافظ الحكمي, معارج القبول. م1.ص/379
[8]فتح المجيد.ص/250
[9] القرافي. أنوار البروق في أنواع الفروق, الفرق 242
[10] محمد علي بن حسين المكي المالكي, تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية.
[11] صحيح مسلم بشرح النووي (م/13, ص/177)
[12] تفسير ابن كثير. ج/1. ص/201
[13] فتح المجيد. ص/242
[14]محمد الأمين الشنقيطي, أضواء البيان, (م/4, ص/442)