قال الحافظ السّيوطيّ رحمه الله :
" اعلم أنّ المعجزة :
أمرٌ خارق للعادة، مَقرونٌ بالتحدِّي،
سالمٌ عن المعارضة .
وهي إما حسِّيَّة وإمّا عقلية :
وأكثر معجزات بني إسرائيل
كانت حسّيّة ،
لبلادَتهم وقلّة بصيرتهم .
وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية
لفرط ذكائهم ، وكمال أفهامهم ،
ولأنّ هذه الشريعة
– لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة –
خُصَّت بالمعجزة العقلية الباقية ؛ليراها ذوو البصائر ،
كما قال صلى الله عليه وسلم :
( ما من الأنبياء نبيّ إلاّ أُعطي
ما مثله آمن عليه البشر ،
وإنّما كان الذي أوتيته وحياً
أوحاه الله إليَّ
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ) .
أخرجه البخاريّ
[ كتاب فضائل القرآن ، باب : كيف نزول
الوحي وأول ما نزل ] .
قيل : إن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ،
فلم يشاهدها إلاّ من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرّة إلى يوم القيامة ،
وخَرقُه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيّبات ،
فلا يمرُّ عصر من الأعصار
إلاّ ويظهر فيه شيء مما أخبر به
أنه سيكون ،
يدُلُّ على صحة دعواه .
إلى أن قال :
وقال تعالى :
** وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربِّه قل إنما الآيات عند الله وإنّما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم **
[ سورة العنكبوت : 50 - 51 ] .
فأخبر أن الكتاب آية من آياته ،
كاف في الدلالة ،
قائم مقام معجزات غيره وآيات مَن سواه من الأنبياء ،
ولمّا جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم ،
وكانوا أفصحَ الفصحاء ،
ومصاقعَ الخطباء ،
[ خطيب مِصْقَع أي : بليغ ]
وتحدّاهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا .
فلمّا عجزوا عن معارضته
والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء والبلغاء ،
نادى عليهم بإظهار العجز
وإعجاز القرآن فقال :
** قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا **
[ سورة الإسراء : 88 ]
هذا وهم الفصحاء اللُّدّ ،
[ جَمْعُ ألدّ ولدود
وهو الشديد الخصومة ]
وقد كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره وإخفاء أمره ،
فلو كان في مقدرتهم معارضته
لعدلوا إليها قطعا للحجّة ،
ولم يُنقل عن أحد منهم أنه حدّث
نفسه بشيء من ذلك ولا رامه ،
بل عدلوا إلى العناد تارة ،
وإلى الاستهزاء أخرى ،
فتارة قالوا : ( سحر ) ،
وتارة قالوا : ( شعر ) ،
وتارة قالوا : ( أساطير الأولين ) .
كلّ ذلك من التحيّر والانقطاع ،
ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم ،
وسبي ذراريهم وحُرَمهم واستباحة أموالهم ،
وقد كانوا آنف شيء وأشدّه حميّة ،
فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه .
لأنه كان أهون عليهم " .
الإتقان في علوم القرآن
( 2 / 1001 - 1003 )
ط : دار ابن كثير .