عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 11-04-2010, 04:52 PM   #1
معلومات العضو
الطاهرة المقدامة
إدارة عامة

افتراضي اقتربي يا فاطمة !

اقتربي يا فاطمة !
قصة مؤثرة
أ.د / أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ بكلية أصول الدين جامعة الأزهر


في صيف عام 1914 م وعلى محطة مدينة طنطا ، والناس وقوف ينتظرون القطار القادم من الإسكندرية في طريقه إلى القاهرة ، وهم بين مودِّع ومودَّعٍ ، وحاملٍ أمتعته ومتأهبٍ لركوب القطار ، وعلى الرصيف في وسط هذا الزحام الكثيف ،كانت هذه القصة التي يذوبُ لها القلب ، حكاها الأستاذ عبد الله بن عفيفي الباجوري رحمه الله : قال كنت واقفا أترقب القطار والكلُّ مشغول في الدقائق المتبقية بين توديع وأشواقٍ وترقُّبٍ وانتظار ، وكنت في شُغُلٍ بصديق يجاذبني أطرافَ حديثِ شيِّقٍ ممتعٍ ، وفي تلك اللحظات الفانية راع الناسَ صياحٌ وصراخٌ ومُشادَّةٌ ومدافعةٌ ، فالتفتنا فإذ بفتاة في السابعةِ عشرةَ من عُمُرِها ، يسوقُها شرطيٌّ عتيدٌ شديدٌ ، ومعه ساعٍ من سعاة إحدى السفاراتِ الأجنبية ، ومن خلفهم عجوزٌ أوروبيٌّ تجاوز الستين مهمومٌ مهزولٌ ، وهي تدافع الرُّجلينِ بكل قُواها المنهارة ، حتى أقبل القطار فكاد كلٌّ ينسى بذلك الموقفِ موقفَهُ ، ثم أُصعدت الفتاةُ وصعد الركابُ واتخذت أنا وصاحبي مكانا قريبا من مقعدها ، كلُّ ذلك والفتاة في حزن وكرب لا يَجْمُلُ معه الصبر ، ولا يُحمَدُ الصمتُ ، فسألتُ العجوزَ الأوروبيَّ ما خطبُهُ وما أمرُ هذه الفتاة ؟ فقال وقد أشرقَهُ ([1]) الدمعُ وقطع صوتَه الأسى :" إنني رجل أسبانيٌّ نصرانيٌّ وهذه الفتاةُ ابنتي ، عرض لها منذ حين ما لم أتوقعه ، صحوتُ ذات صباحٍ على صوتِها تصلي صلاة المسلمين ، ومنذ ذلك اليوم احتجزتْ ثيابَها لتتولى أمر غسلها بعيدا عن ثيابنا ، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحة وجهها وصدرها ثم أخذت تمضي وقتها في صلاة وصيام ، وكانت تدعى روز فأبت إلا أن تنادى بفاطمة وما لبثت حتى تبعتها أختها الصغرى فصارت أشبهَ بها من الزهرة بالزهرة ! ففزعتُ من هول ذلك وانطلقتُ إلى أحد الأساقفة ، فأخذ يحاورها لكنه لم يفلح في إقناعها وإرجاعها ، وعزَّت على الرجل خيبتُه ، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الفتاة الخارجة عن دينها ، وهنالك آمر المعتمدُ حكومةَ مصرَ فساقت ابنتي كما ترى وأجمعوا على أن يلقوا بها في غيابة دير من الأديرة " .
قلتُ له : " وهل يرضيك أن تساق ابنتُك كما تساقُ المجرماتُ الآثماتُ على غير إثم أو جريمة ؟ "
فزفر الرجل زفرةً كاد يتصدع منها قلبه وتتفرق ضلوعه ، ثم قال : " أما وقد خدعتُ ودُهمتُ فما عساني أفعل ؟ "
على إثر ذلك انثنيتُ إلى الفتاةِ وهي تعالجُ من أهوال الحُزن وأثقالِه ما تنوءُ عن حمله الجبال فقلت : ما بالك يا فاطمة ؟ وكأنها أَنِسَتْ بي إذ ناديتُها باسمها الذي تحبُّ فأجابتني متنهِّدةً بصوت يتعثر منه الأسى والضنى : قالت كان لنا جيرةٌ مسلمون أغدو إليهم فأستمع أمر دينهم ، حتى إذا أخذني النومُ ذات ليلة رأيتُ النبيَّ محمداً  في هالة من نور يخطفُ سناها الأبصارُ يقول وهو يلوِّح بيده اقتربي يا فاطمة ، فلم تكد تُتِمُّ كلامها حتى أخذتها رِعدةٌ فهوت على مقعدِها ، سمع من حولنا كلامها فغشيهم من الحزن ما غشيهم وأبصرت بشيخٍ فطلبت منه أن يؤذِّنَ في أُذُنِهَا فلما انتهى إلى قوله تعالى أشهد أن محمداً رسول الله أفاقت وتنفسَّت الصُّعداء ، وأخذت في البكاء ، وعاودتها سيرتها الأولى : ولسان حالها يقول :

وإني لتعروني لذكراكَ هِزَّةٌ --- كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ ([2])

أموتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا --- فَكَمْ أَحْيَا بِذِكْرِكَ أَوْ أَمُوتُ
فَأَحْيَا بِالمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقًا --- فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
شَرِبْتُ الحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ --- فَمَا نَفَدَ الشَّرابُ وَمَا رَوِيتُ

فلما أفاقت قلت لها : ومم تخافين وتفزعين ؟ قالت إنه سيؤمر بي إلى الدير ، وأنا لا أخاف من السياط ، وإنما أخاف أن يحال بيني وبين الصلاة ، قلت لها يا فاطمة ألا أدلك على خير من هذا ! قالت : أجل قلت : إن الإيمان في القلب فما عليك أن لو أقررت أمام المعتمد بدينك القديم حتى لا يؤمر بك إلى الدير ، هنالك نظرت إليَّ نظرةً غاضبةً ثم قالت : إنني إن أطعتُ نفسِي فإن لساني لن يطاوعني ، ثم وصل القطار إلى محطة القاهرة وحيل بيني وبين الفتاة وانقطع خبرُها وطويت صفحتها بين غياهب ذلك الدير ([3]) ، كما طويت صفحات من سبقها ومن لحقها ممن اخترن طريق الحق وثبتن عليه ، ولم يجدن على الحق نصيرًا ، رحمك الله يا فاطمة ، ورحم الله كل من سلك هذا الدرب ، وَثَبَتْ عليه .


    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة