عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 06-03-2012, 04:06 PM   #1
معلومات العضو
الطاهرة المقدامة
إدارة عامة

افتراضي كنت في بداية الصبوة

قال ابن الجوزي

قد ألهمت سلوك طريق الزهاد،
بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبًا طيِّبًا،
وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة،
وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات،
ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة،
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه،
فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة،
ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة،
وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب، إلى أن عدم النور كله،
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس،
فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي!
وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طلب نفسي، فلجأت إلى رب الصالحين،
وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني،
ورد قلبي على بعد نفور مني، وأراني عيب ما كنت أوثره، فأفقت من مرض غفلتي،
وقلت في مناجاة خلوتي:
"سيدي كيف أقدر على شكرك؟
وبأي لسان أنطق بمدحك، إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي، وأصلحت حالي على كره من طبعي؟!
فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك!
وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك!
وما أغناني إذ أفقرتني آهٍ على زمانٍ ضاع في غير خدمتك!
أَسَفًا لوقتٍ مضى في غير طاعتك.
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل،
وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم،
وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض.
فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم، فاستدللت على الصحة،
فيا عظيم الإنعام! تَمِّمْ لي العافية.
آهٍ من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة!
لقد فتقت ما يصعب رتقه،
فوا أَسَفَا على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج الشمال مصاعِدًا مدة، ثم غلبه النوم، فرد إلى مكانه الأول.
يا من يقرأ تحذيري من التخليط! فإني -وإن كنت خنت نفسي بالفعل- نصيح لإخواني بالقول:
احذروا -إخواني- من الترخص فيما لا يؤمن فساده؛
فإن الشيطان يزين المباح في أول مرتبة، ثم يجر إلى الجناح، فتلمحوا المآل، وافهموا الحال!
وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة!
فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى** [طه: 120]،
إنما تأمل آدم الغاية -وهي الخلد- ولكنه غلط في الطريق.
وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء، يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد!!
مثاله: أن يقول للعالم: ادخل على هذا الظالم، فاشفع في مظلوم! فيستعجل الداخل رؤية المنكرات،
ويتزلزل دينه، وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم.
فمن لم يثق بدينة، فليحذر من المصايد، فإنها خفية.
وَأَسْلَمُ ما للجبان العزلة، خصوصًا في زمان قد مات فيه المعروف، وعاش المنكر،
ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة، فمن داخلهم، دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هو فيه.
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات، يراهم منسلخين من نفع العلم، قد صاروا كالشرط،
فليس إلا العزلة عن الخلق، والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة؛
ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوى!
والصبر الصبر على ما توجبه العزلة!
فإنه إن انفردت بمولاك، فتح لك باب معرفته، فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر كل عسر، وحصلت كل مطلوب، والله الموفق بفضله،
ولا حول ولا قوة إلا به.

صيد الخاطر
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة