قال الحافظ السّيوطيّ رحمه الله :
" وقال الخطابي :
ذهب الأكثرون من علماء النظر ،
إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها ،
وصغَوْا فيه إلى حكم الذوق .
قال : والتحقيق أنّ أجناس الكلام مختلفة ،
ومراتبها في درجات البيان متفاوتة ، فمنها البليغ الرّصين الجزل ،
ومنها الفصيح القريب السهل ،
ومنها الجائز الطّلق الرَّسْل ،
وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود ؛
فالأول أعلاها ،
والثاني أوسطها
والثالث أدناها وأقربها ،
فحازت بلاغات القرآن من كلّ قسم
من هذه الأقسام حصّة ،
وأخذت من كل نوع شُعبة ،
فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نَمَط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعُذوبة ،
وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادَّيْن ،
لأنّ العذوبة نِتاج السهولة ،
والجزالة والمتانة يعالجان نوعا
من الزُّعورة ،
[ الجزالة في الكلام ضد الركاكة .
والزّعورة : تشتت المعنى وصعوبته .
فلعل المراد أنّ الجزالة والمتانة تجعلان
الكلام سَهلاً مجتمع المعنى ] .
فكان اجتماع الأمرين في نظمه
– مع نبوّ كلّ واحد منهما عن الآخر –فضيلة خُصّ بها القرآن ؛
ليكون آية بيّنة لنبيه
صلى الله عليه وسلم .
وإنما تعذّر على البشر الإتيان
بمثله لأُمورٍ :
منها : أنّ علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها
التي هي ظروف المعاني ؛
ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء
جميع وجوه النظوم التي بها
يكون ائتلافها ،
وارتباط بعضها ببعض ،
فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأْتُوا بكلام مثله ،
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة :
لفظٌ حاصل ، ومعنى به قائم ،
ورباط لهما ناظم ،
وإذا تأمَّلتَ القرآن وجدت هذه منه
في غاية الشرف والفضيلة ،
حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ،
ولا ترى نظما أحسن تأليفا ،
وأشدَّ تلاؤما وتشاكلا من نظمه .
وأما معانيه : فكلّ ذي لبٍّ يشهد له بالتقدّم في أبوابه ،
والترقّي إلى أعلى درجاته .
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرّق في أنواع الكلام ،
فأمّا أن تُوجد مجموعة في نوع
واحد منه فلم توجد إلاّ في كلام
العليم القدير ،
فخرج من هذا أنّ القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ ،
في أحسن نظوم التأليف ،
مضمَّناً أصحَّ المعاني ،
من توحيد الله تعالى وتنزيهه له
في صفاته ،
ودعائه إلى طاعته ،
وبيانٍ لطريق عبادته ،
من تحليل وتحريم ، وحظر وإباحة ، ومِن وَعْظ وتقويم ،
وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ،
وزجر عن مساويها ،
واضعا كلّ شيء منها موضعه الذي
لا يرى شيء أولى منه ،
ولا يتوهم في صورة العقل أمرٌ أليق به منه ،
مودَعا أخبار القرون الماضية ،
وما نزل من مَثُلات الله بمن مضى وعاند منهم ،
[ المثلات جَمْعُ مثُلة ، وهي العقوبة الفاضحة التي يتمثل بها ]
منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان ،جامعاً
في ذلك بين الحجة والمحتَجّ له ، والدليل والمدلول عليه ؛
ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه ، وإنباء عن وجوب ما أمر به
ونهى عنه .
ومعلوم أنّ الإتيان بمثل هذه الأمور ، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتَتَّسق أمرٌ تعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ،
فانقطع الخلق دونه ،
وعجزوا عن معارضته بمثله ،
أو مناقضته في شكله ،
ثم صار المعاندون له يقولون مرة :
إنه شِعر لمّا رأوه منظوما ،
ومرة : إنه سحر لمّا رأوه معجوزا عنه، غير مقدور عليه .
وقد كانوا يجدون له وقعاً
في القلوب ،
وقرعا في النفوس ،
يُرهبهم ويحيّرهم ،
فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا
من الاعتراف ،
ولذلك قالوا : إنّ له لحلاوةً
وإن عليه لطلاوة .
وكانوا مرة بجهلهم يقولون : ** أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملَى عليه بُكرة وأصيلا **
[ سورة الفرقان : 5 ] ،
مع علمهم أنّ صاحبهم أُمِّيٌّ ،
وليس بحضرته مَن يملي أو يكتب ؛في نحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز .
ثم قال : وقد قلت في إعجاز القرآن وجها ذهب عنه النّاس ،
وهو : صنيعهُ في القلوب وتأثيره
في النّفوس ،
فإنّك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوما ولا منثورا ، إذا قرع السمع خلَص له إلى القلب ،
من اللّذة والحلاوة في حال ،
ومِن الرّوعة والمهابة في حال آخر ،
ما يخلُص منه إليه ،
قال تعالى : ** لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لّرأيتَه خاشعا مّتصدّعا
مّن خشية الله **
[ سورة الحشر : 21 ] ،
وقال : ** الله نزّل أحسن الحديث كتابا مّتشابها مّثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم **
[ سورة الزمر : 23 ] " . انتهى
نقلته من : الإتقان في علوم القرآن
( 2 / 1011 - 1013 )
ط : دار ابن كثير .